النزول من الكرمل

التفعيلة : حديث

ليومٍ يُجدّدُ لي موعدي، قلتُ للكرمل: الآن أمضي.
و ينشرُ البحر بين السماء و مدخلِ جرحي
و أذهبُ في أُفّقٍ ينحني فوقنا، و يُصلّي
لنا ،أو يُكَسّرُنا. هذه الأرض تشبهنا
حين نأتي إليها. و تشبهنا حين نذهب عنها.
تركتُ ورائي ملامحها، و اسمها كان يمشي أمامي
يُسمّي ملامحها و انفجاري. تركتُ سرير الولادهْ
تركتُ ضريحاً مُعدّاً لأيِّ كلام..
تركتُ التي أوجَعَتْهاَ ذراعي. تركت التي أوجعتني يداها.
تُفتّشُ عن عاشقٍ بعد خمس دقائق من هجرتي
ليومٍ يُجَدّدُ لي موعدي، قلتُ للكرمل: الآن أمضي.
تمرّ الرصاصةُ فوق جبيني، و تجمعني مثلما تجمع القبلةُ الشفتينْ

و تولد رمّانةٌ في الصخور التي دجّنتْني، و تجعلني عاشقين
بعيداً.. بعيداً.
و ينتشر البحر بين السماء و مدخل جرحي
تخيّلتُ أنكَ مُتَّكئي
و سئمتُ العلاقة بين المسامير و الخشبهْ
و حين ترجَّلتُ عن قمّة الرمح و الجرح أمسكتُ شيئاً
فَكَانَ حذاءَ الحرسْ
يكمّلني هابطاً هابطاً..

منذ ذاك النهار المبكِّر أبحث عن موطئ القدمين
و أتبعُ نهراً، و لا أتبع الموجَ
هل أستردُّ زفيري!.
يُقاسمُني عسكريُّ جراحي
و يحرسها كي ينال وساماً
و يمنعني من مواصلة الموت ، يأخذ نصف جراحي
و يترُكُ نصفا لأمن الأممْ .
يهزُّ أصابع كفيّ
فتسقط ذكرى.
رصاصٌ قديم.
صنوبرةٌ.
ثمر فاسدٌ.
تهمةٌ.
أسئلهْ

يُفتّشُ كفّيَ ثانية، فيصادر حيفا التي هرّبت سُنْبلهْ
و يا أيّها الكرملُ،
الآن تقرع أجراس كل الكنائسْ
و تعلن أنّ مماتي المؤقّت لا ينتهي دائماً، أو ينتهي مَرّةً،
أيّها الكرمل، الآن تأتي إليك العصافيرُ من ورق
كنتَ لا فرق بين الحصى و العصافيرِ .
و الآن بَعْثُ المسيح يُؤجّل ثانيةً
أيّها الكرمل، الآن تبدأ عطلةُ كل المدارس
و تُنشدني الآن فيروز
و الآن نأخذ أنبوبةً من حبوبٍ تُسيل الدموع ،
فنبكي على جبل طائرٍ
أيّها الكرمل، الآن يجعلني ضابط آخرٌ عرضة للخلود !

بَعُدنا عن الشجر. البحرُ فاصلةٌ بيننا
و ها نحن بين الطهارة و الإثم شيئان يلتحمان و ينفصلان

كأن الأحبّة دائرةٌ من طباشيرَ
قابلةٌ للفناء و قابلة للبقاء.
و ها نحن نحمل ميلادنا مثلما تحمل المرأةُ العاقرُ الحُلُما
و ها أنتَ مئذنة الله حيناً
و قبّعة لجنود المظلاّت حيناً
و ها أنت يا كرملي كلُّما
جرّدتني الحروبُ من الأرض أعطيتَني حُلُما.
و ها أنا أعلن أن الزمان تغيّرَ:
كانت صنوبرةٌ تجعل الله أقربْ
و كانت صنوبرة تجعل الجرح كوكبْ
و كانت صنوبرة تُنجب الأنبياءْ
و تجعلني خادماً فيهمُ
أيّها الكرمل المتشعِّب في كل جسمي
لماذا تحمّلني كل هذي المسافاتِ
و البحرُ فاصلةٌ بيننا؟

أوقَفَتْني فتاة معبُّأة بالدوالي
و كانت تغنّي على طُرُق الشامِ:
يا ليت دالية واحدة
لم تسافر معي.. فأعود إليها
قبّلتني فتاةٌ لأني لفظت اسم كرملها في مُكَبرّ صوت،
فجاءت إلى فندقي لتقول”أحبُّك”، و التجأتْ
لاسمه في ذراعي
_و ماذا يقول الجبلْ؟
بكى قصبٌ في الغدير
و كان الغدير مرايا
فلم ينطبق الجبلُ
_و هل رحلوا؟
* تصبَّبت الريحُ من جبهتي
فمسحتُ الرياح كما تمسحين العرقْ ..
تذكرتُ أني نهضت صباحاً
و كانت شهادةُ ميلاد أمّيَ قابلة للنقاش
و كانت أناشيد أهلي العربْ
تُرتِّبُ أمتعة اللاجئين .
و تبني جسور العبور .
و صارت فلسطين أقربْ .
فاختلف اللاجئون على موسم القمح و البرتقال

أوقفتني فتاةٌ معبَّأةٌ بالدوالي
و كانت تغّنّي على طُرق الشامِ :
يا ليت دالية واحدة
لم تسافر معي.. فأعود إليها
و سافرتُ _
يا أيّها الكرملُ .البحرُ. و العشبُ. و النارُ
يا صخرة الفرح العائمهْ
و صمّمتُ جلدي قميصا لأخفي آثار طعنتك النادمهْ
فأنكَرني العسكريُّ
و كنتُ على باب أمي هناك أنادي دمشقْ
فتسمع نبض دمي حفيف صنوبركَ المبتعدْ
و تغسلني دجلةُ الخير حين أموت من الوجد شوقاً إلى
أرض بابل .
و ها أنذا الآن
حين دخلتُ إلى الجامع الأمويِّ تساءل أهل دمشق:
مَنِ العاشقُ المغتربْ؟
و كانت مياه الفرات و نافورة النيل تحذف آثار زنزانتي
عن ضلوعي
و حين وقفتُ على النيل يوماً و شاطئ دجلة يوماً
تساءل كل الذين رأوا دهشتي
مَن السائحُ المغتربْ ؟!
تركتُ الحبيبة _لم أنسها_ في غروب الشجرْ
تطرِّز من زَبَد البحر منديلها و ضمادي
توهَّمتُ أنّ السموات أبعدُ من يدها عن جبيني
و أوهمّتُها أن قلبي يصلْ
و أنّ يدي تنتقلْ
إلى جُثّة ضائعهْ
تركتُ الحبيبة _لم أنسها_ عند سفح الجبل
تعيرُ العصافيرَ ألوانها
و كانت يداها ينابيعَ من كلِّ لونٍ و ما اشتُقَّ منه
و لكنني كنتُ أشعر أن الينابيع كانت معرّضة للجفاف
و أنّ فمي ينتقل

إلى لُغَة ثانية
تركتُ الحبيبة لم أنسها
تركت الحبيبة
تركت ..

أحبّ البلاد التي سأحبْ
أحب النساء اللواتي أحبْ
و لكن غصناً من السرو في الكرمل الملتهبْ
يُعادل كل خصور النساء
و كلّ العواصم

أحبُّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقول التي سأحبُّ
و لكنَّ قطرةَ ماءِ على ريش قُبَّرّة في حجارة حيفا
تعادل كل البحار
و تغلسني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ

أدْخلُوني إلى الجنة الضائعة
سأطلق صرخةَ ناظم حكمت
آه.. يا وطني !..


نوع المنشور:

شارك على :

المنشور السابق

كأني أحبك

المنشور التالي

الخروج من ساحل المتوسط

اقرأ أيضاً