نعم هذه يا دهر أم المصائب

التفعيلة : البحر الطويل

نعم هذه يا دهرُ أمُّ المصائبِ

فلا تُوعِدَنِّي بعدَها بالنوائبِ

هتكتَ بها سِتر التجامُلِ بيننا

ولم تلتفت فينا لِبُقْيَا المُراقبِ

وما زلت ترمي صفحتي بين عاصدٍ

ومنحرفٍ حتى رَمَيْتَ بصائبِ

فرأيَكَ في قَوْدي فقد ذلَّ مِسْحَلي

وشأنَكَ في غمزِي فقد لان جانبي

ولا تحسَبنِّي باسطاً يدَ دافعٍ

ولا فاتحاً من بعدها فَمَ عاتبِ

ولا مُسبِغاً فَضفاضةً أبتغي بها

شَبَا طاعنٍ من حادثاتك ضاربِ

لها كنتُ أستبقي الحياةَ وأحتمي

وأجمعُ بُرْدِي من أكفِّ الجواذبِ

وَلَجتَ رُواقَ العزّ حتى اقتحمتَهُ

بلا وازعٍ عنه ولا ردِّ حاجبِ

وأنشبتَ في صمَّاءَ عهدي بمتنها

صفيقَ المَطَا زَلِيقة بالمخالبِ

سددتَ طريقَ الفضلِ من كلِ وجهةٍ

وملتَ على العلياء من كلّ جانبِ

فلا سَنَنٌ إلا محجَّةُ تائِهٍ

ولا أملٌ إلا مطيَّةُ خائبِ

أَبعدَ ابنِ عبدِ اللهِ أحظَى براجعٍ

من العيش أو آسَى على إثْر ذاهبِ

وأُرسِلُ طَرفي رائداً في خميلةٍ

من الناسِ أبغي نُجعةً لمطَالبي

وأقدحُ زَنداً وارياً من هَوَى أخٍ

وأكشفُ عن ودٍّ خبيئةَ صاحبِ

وأدفعُ في صدرِ الليالي بمثلِهِ

فتَرجِعَ عنّي دامياتِ المناكبِ

أَبَى ذاك قلبٌ عنه غيرُ مُغالطٍ

برجمٍ وحلمٌ بعدَهُ غيرُ عازبِ

وأنَّ خُروقَ المجدِ ليستْ لراقع

سوَاه وصدعَ الجودِ ليس لشاعبِ

طَوَى الموتُ منه بُردةً في دُروجها

بقيَّةُ أيامِ الكرامِ الأطايبِ

مُحَبَّرةً سَدَّى وألحمَ وَشْيَها

صَنَاعٌ بحَوْك المكرماتِ الرغائبِ

كسا اللهُ عِطفَ الدهرِ حيناً جمالَها

فلما طغى قِيضَتْ لها يَدُ سالبِ

لئن دَرَسَتْ منها الخُطوطُ فإنه

لَيبْقَى طويلاً عَرفُها في المَساحبِ

وجوهرةً في الناس كانت يتيمةً

وهل من أخٍ للبدرِ بين الكواكبِ

أَبَى الحُسْنُ أن يحبَى بها عِقدُ ناظمٍ

فتُسلَكَ أو يسمو لها تاجُ عاصبِ

فمُدَّتْ إليها بالردى يَدُ كاسرٍ

وكان يقيها المجدُ من يد ثاقبِ

سل الموتَ هل أودعتهُ من ضغينةٍ

تَنَقَّمَ منها فهو بالوِتر طالبي

له كلَّ يومٍ حولَ سَرحِيَ غارةٌ

يشرِّد فيها بالصفايا النجائبِ

سُلافةُ إخواني وصفوةُ إخوتي

ونُخبةُ أحبابي وجُلُّ قرائبي

فَليتَ عفا عن أحمدٍ فادياً له

بمُصرمةٍ مما اقتنيتُ وحالبِ

أألآن لمّا اشتدّ مَتْنِي بودّه

وردّت مِلاءً من نَداه حَقائبي

وجَمَّتْ لآمالي العطاشِ حِياضُهُ

وكانت تُخلَّى عن نِطافِ المَشاربِ

فُجِعتُ به غَضَّ الهوى حاضرَ الجَدَى

جديدَ قميصِ الودّ سَهْلَ المَجَاذب

كأني على العهدِ القريبِ اعتلقتُهُ

بطُولِ اختباري أو قديم تَجاربي

سدَدتُ فَمَ الناعِي بكفِّي تطيرُّاً

ولوَّيتُ وجهي عنه لَيَّ مُغاضِبِ

وقلتُ تبيَّنْ ما تقولُ لعلَّها

تكون كتلك الطائراتِ الكواذبِ

فكم غامَ من أخباره ثم أقشعتْ

سحابتهُ عن صالحِ الحالِ ثائبِ

فلمّا بدا لِي الشرُّ في كَرِّ قوله

ربطتُ نَوازِي أضلعي بالرواجِبِ

ومِلتُ إلى ظِلٍّ من الصبر قالصٍ

قصيرٍ وظَنٍّ بالتجمُّلِ كاذبِ

ونفْسٍ شَعاعٍ قد أخلَّ وقارُها

بعادتِهِ في النازلاتِ الصعائبِ

وعينٍ هَفَا الحزنُ الغريبُ بجفنها

فطاحَ ضياعاً في الدموعِ الغرائبِ

أُسائلُ عنه المجدَ وهو معطَّلٌ

سؤالَ الأجبِّ عن سَنامٍ وغاربِ

وأستروحُ الأخبارَ وهي تسوءني

علائقَ منها في ذيولِ الجنائبِ

فيُفصِحُ لي ما كان عنه مُجَمْجِماً

ويصدُقُني ما كان عنه مُواربي

فَقِيدٌ بميْسانَ استوت في افتقاده

مَشارقُ آفاق العُلا بالمغاربِ

وقِيدَ الحياءُ والسماحُ فأُرْجِلا

عَقيريْنِ في تُرْبٍ له مُتراكبِ

تُنافِثُ عن جمرِ الغضا نادِباتُهُ

كأنّ فؤادي في حُلوقِ النَّوادبِ

بكتْ أدمعاً بِيضاً ودمَّتْ جِباهَها

فتحسَبُها تَبكي دَماً بالحواجبِ

هوتْ هَضْبةُ المجدِ التليدِ وعُطِّلتْ

رسومُ الندَى وانقضَّ نجمُ الكواكبِ

ورُدَّت رِكابُ المُخمِسين بِظمئِها

تكدّ الدلاءَ في رَكايا نواضبِ

ومَنْ يستبلُّ المُسنِتونَ بسيبْهِ

فَيرجِعَ خُضْراً بالسنين الأشاهِبِ

ومولىً كشفتَ الضيمَ عنه وقد هَوى

به الذلُّ في عَمياءَ ذاتِ غَياهبِ

فلما رآك استشعرَ النَّصْفَ واستوتْ

بهِ رِجلهُ في واضح مُتلاحبِ

وفيمن يُصاغُ الشعرُ بعدَك ناظماً

عقودَ الثناءِ حاظياً بالمنَاقبِ

وأين أخوك الجودُ من كفِّ راغبٍ

إذا لم تكن قَسَّامَ تلك الرغائب

ومن ذا يعي صوتي ويعتدّ نُصرتي

جهاداً وودّي من وشيج المَنَاسبِ

برغميَ أنْ هبَّ النيامُ وأنني

دعوتُكَ وجهَ الصبح غيرَ مُجاوِبِ

وأن لا تُرَى مُستعرِضاً حاجَ رُفقةٍ

ولا سائلاً من أين مقْدَمُ راكبِ

وكنتُ إذا ما الدهرُ شلَّ مَعاطني

دعوتُكَ فاستنقذتَ منه سَلائبي

ذخيرةُ أنسي يومَ يوحشني أخي

وبابي إذا سُدّتْ عليَّ مذاهبي

وكم من أخٍ بَرٍّ وإن أنا لم أجدْ

كَأَنْتَ أخاً في أُسرتي والأجانبِ

سَرَى الموتُ من أوطانه في مآلفي

ونقَبَ من أخلافِهِ عن حبائبي

عجبتُ لهذي الأرضِ كيف تلُمُّنا

لتَصدَعَنا والأرضُ أمُّ العجائبِ

نطارِدُ عن أرواحِنا برماحِنا

ونَطربُ من أيامنا للحرائبِ

وتَسحَرنا الدنيا بشَبعةِ طاعمٍ

هي السَّقَمُ المُرْدِي ونَهلةِ شاربِ

أُحدّثُ نفسي خالياً بخلودها

فأين أبي الأدنىَ وأين أقاربي

ولا كنتُ إلا واحداً من عشيرةٍ

ولا باقياً في الناس إلا ابن ذاهب

فهل أنا أَجْبَى من مَقَاوِل حِمْيَرٍ

وأمنعُ ظَهراً من مُشيِّد مَارِبِ

وهل أخَذتْ عهد السموءلِ لي يدٌ

من الموت أو عند حَنيَّةُ حاجبِ

أردّ شفاراً عن نحورِ صَحابةٍ

كأنيَ دَفَّاعٌ لها عن ترائبي

ولا عِلمَ لي من أيّ شِقَّىَّ مَصرَعي

وفي أيِّما أرضٍ يُخ لجانبي

إذا كان سهمُ الموتِ لابدّ واقعاً

فيا ليتني المرميُّ من قَبلِ صاحبي

ويا ليتَ مقبوراً بكوفان شاهدٌ

جوايَ وإن كانت شهادةَ غائبِ

ولَيتَ بِساطَ الأرض بيني وبينه

طوتْه على الأعضادِ أيدي الركائبِ

فَعُجْتُ عليه واقفاً فمسلِّماً

وإن هُوَ لم يَفقهْ حديثَ المُخاطِبِ

ولَيتَ طريفَ الودّ بيني وبينه

وإن طابَ يوماً لم يكن من مَكاسبي

سلامٌ على الأفراح بعدَك إنها

وإن عشتُ ليست إربةً من مَآربي

إذا دنَّس الحزنَ السلوُّ غسلتُهُ

فعاد جديداً بالدموعِ السواكبِ

وإن أحدثَتْ عندي يدُ الدهرِ نِعمةً

ذكرتُك فيها فاغتدتْ من مَصائبي

أُدارِي عيونَ الشامتين تجلُّداً

وأبسِمُ منهم في الوجوهِ القواطبِ

أُرِيهم بأني ثابتُ الريش ناهضٌ

وتحت جَناحي جانفاتُ المخالبِ

سَقَتكَ بمعتادِ الدموع مُرِشَّةً

أفاويقُ لم تُخدِج بلَمعةِ خالبِ

يلوث خطافُ البرقِ في جَنَباتِها

بهامِ الهضابِ السودِ حُمرَ العصائبِ

لها فوق مَتنِ الأرض وهي رفيقةٌ

بما صافحت وَخْدُ القرومِ المصاعب

تَرَى كلَّ تُربٍ كان يَعتاضُ لَيناً

لها وغلاماً كلَّ أشمطَ شائبِ

إذا عُمِّمتْ جَلْحاءُ أرضٍ بوبلها

غدتْ روضةً وفراءَ ذات ذوائبِ

وإن كان بحرٌ في ضريحك غانياً

بجُمَّاتِهِ عن قاطراتِ السحائبِ


نوع المنشور:

شارك على :

المنشور السابق

أُعجِبت بي بين نادي قومِها

المنشور التالي

قضى دين سعدى طيفها المتأوب

اقرأ أيضاً