يا أَيُّها الطِّفْلُ الَّذي قَدْ
كانَ كاللَّحنِ الجَميلْ
والوردةِ البيضاءِ تَعْبُقُ
في غيابَاتِ الأَصيلْ
يا أَيُّها الطِّفلُ الَّذي قَدْ
كانَ في هذا الوُجُودْ
فرِحاً يُناجي فتنَةَ
الدُّنيا بمعسولِ النَّشيدْ
ها أَنْتَ ذا قَدْ أَطْبَقَتْ
جفنَيْكَ أَحلامُ المَنُونْ
وتَطَايرتْ زُمَرُ الملائِكِ
حولَ مضْجعِكَ الأَمينْ
ومضتْ بروحِكَ للسَّماءِ
عَرائسُ النُّورِ الحبيبْ
يحمِلْنَ تيجاناً مُذَهَّبَةً
من الزَّهَرِ الغَريبْ
ها أَنْتَ ذا قَدْ جَلَّلَتْكَ
سَكِينَةُ الأَبدِ الكبيرْ
وبَكَتْكَ هاتيكَ القُلُوبُ
وضمَّكَ القبرُ الصَّغيرْ
وتفرَّقَ النَّاسُ الَّذين
المقابِرِ شيَّعوكْ
ونسُوكَ مِنْ دنياهُمُ حتَّى
كأَنْ لمْ يَعْرفوكْ
شَغَلَتْهُمُ عنكَ الحَيَاةُ
وحَرْبُ هذي الكائنَاتْ
إنَّ الحَيَاةَ وقد قضيْتَ
قُبَيْلَ معرفَةِ الحَيَاةْ
بحرٌ قَرارَتُهُ الرَّدى
ونشيدُ لجته شَكَاةْ
وعلى شواطئهِ القُلُوبُ
تئنُّ داميةً عُراةْ
بحرٌ تجيشُ بع العَوَاصفُ
في العَشِيَّةِ والغَداةْ
وتُظِلُّهُ سُحُبُ الظَّلامِ
فلا سكونَ ولا إياةْ
نَسِيَتْكَ أَمواجُ البُحَيْرَةِ
والنُّجُومُ الَّلامعهْ
والبُلبلُ الشَّادي وهاتيكَ
المروجُ الشَّاسِعهْ
وَجَداولُ الوادي النَّضيرِ
برَقْصِها وَخَريرها
ومسالكُ الجبلِ الصَّغير
بعُشْبِها وزُهورها
حتَّى الرِّفاقُ فإنَّهمْ
لبثوا مدًى يتساءلونْ
في حيرةٍ مشبوبةٍ
أَيْنَ اختفى هذا الأَمينْ
لكنَّهمْ علموا بأنَّكَ
في اللَّيالي الدَّاجيهْ
حملتكَ غِيلانُ الظَّلامِ
إلى الجبالِ النَّائيهْ
فَنَسُوكَ مثلَ النَّاسِ وانصرفوا
إلى اللَّهْوِ الجميلْ
بَيْنَ الخمائلِ والجداولِ
والرَّوابي والسُّهولْ
ونسُوا وداعَةَ وجهكَ الهادي
ومنظَرَكَ الوسيمْ
ونسُوا تَغَنِّيكَ الجميلَ
بِصَوتكَ الحلوِ الرَّخيمْ
ومضوْا إلى المرْج البهيجِ
يطارِدُونَ طيورَهُ
ويُزحزِحونَ صُخورَهُ
ويعابِثونَ زُهورَهُ
ويشيِّدونَ من الرِّمالِ البيضِ
والحَصَبِ النضيرْ
غُرَفاً وأَكواخاً تُكَلِّلُها
الحشائشُ والزُّهورْ
ويُنضِّدون من الرُّبى
بَيْنَ التَّضاحُكِ والحُبورْ
طاقاتِ وردٍ آبدٍ
تُزري بأَورادِ القُصورْ
يُلقُونها في النَّهْرِ
قُربانا ًلآلهة السُّرورْ
فَتَسيرُ في التَّيَّارِ راقصةً
على نَغَمِ الخريرْ
كلٌّ نَسُوكَ ولم يعودوا
يذكرونكَ في الحَيَاةْ
والدَّهرُ يَدْفُنُ في ظلامِ
الموتِ حتَّى الذِّكرياتْ
إلاَّ فؤاداً ظلَّ يخفُقُ
في الوُجُودِ إلى لِقاكْ
ويودُّ لو بَذَلَ الحَيَاةَ
إلى المنيَّةِ وافتداكْ
فإذا رأَى طفلاً بكاكَ
وإن رأَى شبَحاً دَعاكْ
يُصغي لصوتكَ في الوُجُودِ
ولا يرى إلاَّ بَهَاكْ
يُصغي لنغمتكَ الجميلَةِ
في خريرِ السَّاقيهْ
في رنَّةِ المزمارِ
في لغوِ الطُّيور الشَّاديهْ
في ضجَّةِ البَحر المجلجِل
في هَدير العاصفهْ
في لُجَّةِ الغاباتِ
في صوتِ الرُّعودِ القاصِفهْ
في نُغْيَةِ الحَمَلِ الوَديعِ
وفي أَناشيدِ الرُّعاةْ
بَيْنَ المروجِ الخُضْرِ
والسَّفْحِ المجلَّلِ بالنَّباتْ
في آهةِ الشَّاكي
وضوضاءِ الجموع الصَّاخبهْ
في شهقةِ الباكي
يُؤجِّجُها نُواحُ النَّادبهْ
في كلِّ أَصواتِ الوُجُودِ
طروبِهَا وكئيبِها
ورخيمِها وعنيفِها
وبغيضِها وحبيبِها
ويراكَ في صُوَرِ الطَّبيعَةِ
حُلوِها وذميمِها
وحزينِها وبهيجِها
وحقيرِها وعظيمِها
في رقَّةِ الفجرِ الوَديعِ
وفي اللَّيالي الحالِمَهْ
في فتنة الشَّفقِ البَديعِ
وفي النُّجُومِ البَاسمهْ
في رقصِ أَمواجِ البحيْرة
تَحْتَ أَضواءِ النُّجُومْ
في سِحْرِ أَزهارِ الرَّبيعِ
وفي تهاويل الغُيومْ
في لمعَةِ البرق الخَفُوقِ
وفي هُوِيِّ الصَّاعقهْ
في ذِلَّةِ الوادي
وفي كِبْرِ الجبال الشَّاهقهْ
في مشهَدِ الغابِ الكئيبِ
وفي الورود العاويهْ
في ظُلْمَةِ اللَّيل الحزين
وفي الكُهوف العاريهْ
أَعَرفتَ هذا القلبَ في
ظلماءِ هاتيكَ اللُّحُودْ
هوَ قلبُ أُمِّكَ
أُمِّكَ السَّكْرَى بأَحزانِ الوُجُودْ
هو ذلك القلبُ الَّذي
سيَعيشُ كالشَّادي الضَّريرْ
يشدو بشكوَى حزنِهِ الدَّاجي
إلى النَّفَسِ الأَخيرْ
لا ربَّةُ النِّسيانِ ترحمُ
حُزْنَهُ وترى شقاهْ
كلاّ ولا الأَيَّامُ تُبْلي
ي أَنامِلِها أَساهْ
إلاَّ إِذا ضَفَرَتْ لهُ
الأَقدارُ إكليلَ الجنونْ
وغدا شقيًّا ضاحكاً
تلهو بمرآهُ السُّنُونْ
هو ذلكَ القلبُ الَّذي
مهما تقلَّبَتِ الحَيَاةْ
وتدَفَّعَ الزَّمَنُ المُدَمْدِمُ
في شِعابِ الكائناتْ
وتَغَنَّتِ الدُّنيا وغرَّدَ
بلبلُ الغَاب الجميلْ
سَيَظَلُّ يعبُدُ ذكرياتِكِ
لا يَمَلُّ ولا يَميلْ
كالأَرض تمشي فوق تُرْبَتِها
المسرَّةُ والشَّبابْ
واللَّيلُ والفجرُ المجنَّحُ
والعواصفُ والسَّحَابْ
والحبُّ تَنبتُ في مواطِنِهِ
الشَّقائِقُ والورودْ
والموتُ تُحْفَرُ أَينما
يخطو المقابرُ واللُّحودْ
وتمرُّ بَيْنَ فجاجها اللَّذَّاتُ
حالمةً تميدْ
سكرى وأَشواقُ الوَرَى
ترنو إلى الأُفُقِ البعيدْ
وتَظَلُّ ترقُصُ للأَسى
للَّهْوِ أَشباحُ الدُّهُورْ
حتَّى يُواريها ضَبابُ الموتِ
في وادي الدُّثورْ
وتَظَلُّ تُورِقُ ثمَّ تُزْهِرُ
ثمَّ يَنْشُرُها الصَّباحْ
للموتِ للشَّوكِ الممزَّقِ
للجداولِ للرِّياحْ
بَسَماتُ ثَغْرٍ حالِمٍ
يفترُّ في سَهْوِ السُّرورْ
وَوُرودُ روضٍ باسِمٍ
يُصغي لأَلحانِ الطُّيورْ
وتظلُّ تخفقُ ثمَّ تشدُو
ثمَّ يطويها التُّرابْ
قُبَلٌ وأَطيارٌ تُغَرِّدُ
للحياةِ وللشَّبابْ
وتظلُّ تمشي في جِوارِ
الموتِ أَفراحُ الحَيَاةْ
ويغرِّدُ الشُّحرورُ مَا
بَيْنَ الجَماجِمِ والرّفاتْ
والأَرضُ حالمةٌ تغنِّي
بَيْنَ أَسرابِ النُّجُومْ
أُنشودَةَ الماضي البعيدِ
وسُورَةَ الأَزَلِ القديمْ