المقاومة والقاضيان

التفعيلة : حديث

في حزيران يونيو من عام 1132 للميلاد

اجتاز جيش إسباني قشتالي بلاد الأندلس

كلها من الشمال إلى الجنوب

حتى وصل إلى مقربة من إشبيلية

والجزيرة الأيبيرية يومئذ أكثرها للمسلمين

إلا أن أحداً من أمرائهم لم يمنع ذلك الجيش

الإسباني القشتالي السائر

في طول البلاد وعرضها من المرور

فحين وصل الغزاة إلى إشبيلية

خرج إليهم واليها المرابطيُّ عمرُ بنُ الحاجِّ اللمتونيُّ

في من حضره من جنوده

فاستشهد الوالي وانكسر جنده

وضرب القشتاليون الحصار على المدينة

فباتت تنتظر السقوط والمذبحة

إلا أن المرابطين وكانوا يملكون

العدوتين المغرب والأندلس

وحاكمهم أمير المسلمين علي

ولدُ بطل معركة الزلاقة الشهير يوسف بن تاشفين

أمدوا المحاصرين في إشبيلية بجيشهم الرئيسي

يقوده ابن أميرهم

تاشفينُ بنُ عليِّ بنِ يوُسُفَ بنِ تاشفين

فخاف القشتاليون من كثرة الجيش ففكوا الحصار

وانسحبوا إلى عاصمتهم

قاطعين الأندلس كلها مرة أخرى

عائدين من الجنوب إلى الشمال

لا الجيش المرابطي الكبير لحقهم

ولا هاجمهم أحد من أمراء الأندلس المسلمين

الواقعةِ حصونُهم على طول الطريق

في كتاب أحكام القرآن

يذكر صاحبه القاضي أبو بكر بنُ العربي الإشبيلي

هذه الواقعة، عند تفسير الآية الحادية والأربعين

من سورة التوبة:

(انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ و

وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ

إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)

يقول:

اختلف علماؤنا في تفسير هذه الآية

أو نسخها على قولين

والصحيح أنها غير منسوخة

وقد تكونُ حالةٌ يجب فيها النفيرُ على الكلِّ

إذا تعيَّن الجهادُ على الأعيان

بغلبة العدوِّ على قطرٍ من الأقطار أو بحلوله بالعُقر

فيجبُ على كافة الخلقِ الجهاد والخروج إليه

فإن قصَّروا عَصَوا

ولقد نزل بنا العدوُّ قصمه الله تعالى

سنة سبع وعشرين وخمسمئة للهجرة

يعني هذه الغزوة القشتالية

عام ألف ومئة واثنين وثلاثين للميلاد

فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسط بلادنا

في عدد حدد الناس عدده

فكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حددوه

فقلت للوالي والمولى عليه

هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة

فلتكن عندكم بركة

ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة

فليخرج إليه جميع الناس

حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار

فيحاطَ به

فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له

فغلبت الذنوب

ورجفت بالمعاصي القلوب

وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره

وإن رأى المكيدة بجاره

فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل

إلى هنا انتهى كلام ابن العربي

وهو كان درى أم لم يدر ينظِّر لحرب المقاومة الفدائية

أو ما يعرف في العلوم العسكرية بحرب العصابات

أو الحرب الشعبية

حيث لا تقتصر مقاومة الغزاة على الجيش النظامي

والجند المحترفين

بل يواجههم كل من يقدر على ذلك رجلاً كان أو امرأة

وهذا كلام خطير في زمانه

فقليلون هم من كانوا ينادون بحروب

المقاومة الشعبية في أندلس

القرن الثاني عشر الميلادي

إذ لم يكن معتاداً أن العامة يقاتلون

كانت الجيوش محترفة تدفع لجنودها الرواتب

وهؤلاء الجند المأجورون

لا يصنعون شيئاً إلا القتال إن كان قتال

أو التدرب عليه إن كان سلم

أما أن يخرج الفلاح والتاجر والصانع إلى الحرب

فلم يكن معروفاً

اللهم إلا عند البدو

حيث القبيلة كلها وحدة مقاتلة

وهذا ما دعا عبد الرحمن بن خلدون

بعد قرنين من الزمان أن يقول في كتابه العظيم:

كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر

في أيام العرب والعجم والبربر

ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر

إن البدو أشجع من الحضر

تحديداً لأن المجتمع كله عندهم يقاتل

ولا يكل أمر الدفاع عنه

إلى حاكم أو إلى جيش من المحترفين

فاسمعه يقول:

“إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر

والسبب في ذلك أن أهل الحضر

ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة

وانغمسوا في النعيم والترف

ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم

إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم

والحامية التي تولت حراستهم

واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم

والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة

ولا ينفر لهم صيد

فهم غارّون آمنون

قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال

وتنزلوا منزلة النساء والولدان

الذين هم عيال على أبي مثواهم

حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة فيهم

وأهل البدو

لتفردهم عن التجمع وتوحشهم في الضواحي

وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب

قائمون بالمدافعة عن أنفسهم

لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم

فهم دائماً يحملون السلاح

ويتلفتون عن كل جانب في الطرق

ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس

وعلى الرحال وفوق الأقتاب

ويتوجسون للنوبات ويتفردون في القفر والبيداء

مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم

قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجيةً

يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ

إلى هنا انتهى كلام ابن خلدون

فكأن القاضي ابن العربي

حين رأى مرور الجيش القشتالي في البلاد

لم يعترضه أحد

حيث أوكل كل رجل

أمر الدفاع عنه إلى واليه وحامية مدينته

وأوكل كل وال أمر الدفاع عنه

إلى والي المدينة التي تليه

أراد أن يرجع أهل الأندلس بدواً كما كانوا يوم حازوها

أو أن يفعلوا ذلك في حال الخطر الشديد على الأقل

أي عندما يصل العدو العُقر عقر الدار

يعني العواصم والمدن حيث يكثر الناس

ويحيطون به فإن قاتلوه غرق في أعدادهم

بعد هذه الأحداث بثمانية قرون

يروى عن القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني

الذي استشهد عام 1948

وهو يقاتل في قرية القسطل من أرباض القدس

أنه طلب السلاح من جامعة الدول العربية

فقال له بعض وزراء الدفاع العرب

بل نأتي نحن مع سلاحنا

أي أن أمر قتال الغزاة سيوكل للجيوش النظامية

وكان من هذه الجيوش ما تعرف

وانهزمت وضاعت البلاد

ولو أن وزراء الدفاع العرب

أو ولاة الأندلس سلحوا الناس

على قول القاضيين ابن العربي وابن خلدون

وغيرهما من عقلاء الأمم لربما كان التاريخ مختلفاً

ففي عام سبعة وستين

امتنع الإسرائيليون الذين هزموا الجيشين

المصري والسوري

من محاولة احتلال دمشق أو القاهرة

أو من التغلغل في الدلتا رغم قدرتهم على ذلك حينها

لا لشيء إلا لأنهم خافوا المقاومة الشعبية وكثرة العدد

والأمثلة جمة من الجزائر إلى فيتنام

وفي أواخر العقد الأول من هذه الألفية

شهدت بنفسي محاضرة

للرئيس الأمريكي الأسبق

بيل كلينتون في واشنطن العاصمة

قال فيها

إنه منذ الحرب العالمية الثانية

لم تنتصر قوة أجنبية على مقاومة محلية

تمارس حرب العصابات قط

إلا بتأليب الناس بعضهم على بعض

أي بتفرقة المقاتلين شيعاً وطوائف

فيكون بأسهم بينهم دون غزاتهم

وها نحن بعد ألف سنة

نقع في الأخطاء ذاتها فنلقى المصائر ذاتها

وبعد خمسة قرون من هذه الغزوة القشتالية

التي أحزنت القاضي ابن العربي

وكانت الأندلس قد ضاعت كلها

كتب المؤرخ شهاب الدين أحمد التلمساني

في كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب

يعلق عليها قائلاً:

لا خفاء أن هذا

(يعني دعوة ابن العربي التي لم تلب للمقاومة الشعبية)

كان قبل أخذ العدو شرق الأندلس

وسرقسطة وميورقة وغيرهما

مما قدمنا ذكره والبدايات

عنوان على النهايات..

وقد صدق


نوع المنشور:

شارك على :

المنشور السابق

تلك أجسامكم وضوء السراج

المنشور التالي

القبلة وسط الكلام

اقرأ أيضاً