عنزة تتعثر بيْن الخرائب
وكانت إذا عنزة عثرت بالعراق
يظل لها عمر لا ينام
فكم عثرت فيه من أمة
وكم من أميم وكم من إمام!
وكم من إله أطيح به
وكم من إله أقيم فقام!
عنزة تتعثر بين الخرائب
وتبحث في ما تبقى من المتحف الوطني ببغداد
عن عشبة أو وثيقة
ولا فرق إن جاعت العنز بينهما
ولا فرق بينهما في الحقيقة
عشبة في الخراب توثقه
أو وثائق في الرمل تورقه
ربما كانت العنز أهدى
فخلوا الطريق لها
والطريقة
يحكى أن “نبو” إله الحكمة في بابل
ألقيت فيه علّة العشق
فرأى أول ما رأى عنزة فعشقها
اقترب منها
فارتعبت من طوله وعرضه
هربت فتبعها
الإله يركض وراء العنزة
والعنزة لا تفهم ما يريد الإله
ثم إن فهمت فهي لا تريده زوجاً
كيف لإله الحكمة أن يمنحها عنزاً صغاراً
ويناطح عنها الكباش؟
العنزة لا تريده والإله يريد العنزة
وارتبك مجمع الآلهة
قال إنليل:
قتلَنا ذلك المجنون
أضاع سمعتنا
نحن الذين لا ترانا العيون إلا وهماً
أصبحنا نلملمه كل عشية يركض وراء العنز في الزرائب
أضحك أسنان الفلاحين الصفراء علينا
جرسنا ذلك الأبله فماذا نصنع به؟
إله يحب عنزة أين شرعه وشرعيته إذن؟
قال آنو:
دعك من حديث الشرعيَّة هذا يا عزيزي
فأنت تعلم أنه لولا طيبة قلب هؤلاء العباد
لما كنا ولا بقينا
أنت تعلم أننا خوفهم ورجاؤهم
مضافون إلى ضمائرهم فلا نكون إلا بهم
أنت تعلم ما شرعيتنا فعد عن هذا الحديث
نحن لسنا شيئاً
مَه!
نحن نجري البحار ونقود السحاب
ونخرج النبات من الصخر
ونستولد البرق رعداً والرعد ماءً
وأنت تقول لسنا شيئاً أين يُذهب بك؟
أنت أدرى
البحار تجري والسحاب يسري
والنبات يخرج من الصخر
وأنت والله ما تحسن أن تعد فطورك
نحن لسنا شيئاً
بلى وحق أبيك
نحن ظن الناس
نحن الظن
وما أدراك ما الظن!
الظن مجري السحاب ومخرج النبات من الحجر
نعم
أدري أن لا شيء يملأ الفراغ
ما بين البساط الأسود والخيمة الزرقاء
لكن ذلك اللاشيء
هو الذي يمسكها أن تَنهار على رؤوس الناس
نحن الهواء حوله ماء
وعلى الماء الأرض وعلى الأرض البشر
فقاعة إذن!
إن شئت
لكنها فقاعة تدعى العالم يا جعلت فداك
وهذا الأبله الأرعن يخاطر بنا على قرن عنزة
تعفر على عقبيها ولا تفهم الحديث
نحن لا شيء
والعنزة شيء
محقة العنزة في رفض أخينا وزميلنا الأستاذ
العنز أرفع منا مقاماً
نحن الظن
نحن الكلام
نحن اللغة
لا شيء سوى اللغة
أتنطح اللغة؟
هل ترى إذا جعلت اللغة في حقل من الشعير والبرسيم
أينقص البرسيم شيئاً؟
خبرني إنليل
هل منعت فيضاناً عن عبيدك؟
هل سقيتهم ماءً حين استسقوك؟
هل نصرتهم على عدو دهمهم؟
هل خلقت الحب في قلب معشوقة شاعر
قتل نفسه لأنها تحبّ نذلاً عوضاً عنه؟
خبرني إنليل
هل فعلت إلا أن وزعت الأسماء
كالقهوة في المآتم والحلوى في الأعراس؟
أسميت الفيضان غضباً والقحط حرباً بينك وبيني
وعزوف المرأة ذنباً تُحرق من أجله على مذبحك
وموت الشاعر استشهاداً يكون لأجله قبره معبداً لك
أنت توزع الأسماء يا إنليل
نحن أسماء نوزع أسماء ولولا الأسماء
لصرنا تماثيل من حجر عاطلة عن العمل يا إنليل
والعنزة عنزة
سمِّها ببغاء، قرداً، بحراً، غضباً، سحراً، أزمة، قرباناً..
فوالله ما تغير نغمة من ثغائها
ولا حركة فكيها إذ تمضغ العشب
ولا نتن ريحها، ولا غلمتها للكباش، ولا طعم لبنها
العنزة عنزة وسمّها ما شئت
العنزة أكبر منا مقاماً
أنت إله لا يعرف ما يقول
إن نكن خيالاً فلسنا هراءً ولا هذياناً
وإن نكن مجازاً فلسنا كذباً ولا بهتاناً
فكر في الكهان
إن كانوا سحرة أم أطباء
والله لا يعالجون الناس إلا بأسمائنا
فإن لم يقدروا على شفائهم
فبنا يجعلون الداء محتملاً والعيش ممكناً ولو إلى حين
ماذا يصنعون بدوننا؟
ما تصنع امرأة تؤمن أنّ ابنها ذا السنوات العشر..
والذي لن يكبر أبداً أصبح نخلة في فناء معبدك؟
ما يصنع الرجال الذين حاربوا وانهزموا
وما عاشوا إلا لتنصرهم في الجولة القادمة؟
ما يصنع الذين حاربوا وانتصروا
وما حاربوا إلا في سبيلك؟
ما يصنع المحاصرون
إذا انسدت كل الطرق إلى مدينتهم
إلا تلك التي تؤديهم إلى النجوم؟
اصبر يا أخي
إن للعالم حقاً عليك
وفيمَ الصبر وعلامَ!
هذه كلّها جرائم
أخوك الآخر يلاحقها في الزرائب
لا غرو أنه إله الحكمة
أتريد أن يرمينا الناس بالحجارة؟
تعالَ نكن عنزاً..
عسى أن يغفر لنا عبيدُنا ما صنعنا بهم
وكيف نكون عنزاً؟
أنقدر؟
ألم أقل لك؟
لا نقدرُ على شيء يا إنليل
هل أنت قادر أن تكون؟
قادر أن أكون إلهاً
ليس عن هذا سألتك
هل أنت قادر أن تكون عنزة؟
عنزة
نعم
عنزة أتقدر أن تكون عنزة؟
أتقدر أن تكون أسداً، بقرة، حماراً..
بكرة على بئر، قفلاً، مفتاحاً، حذاءً.. يا إنليل
هل أنت قادر أن تكون؟
أجب!
حين تفحص موظفون من اليونسكو
بقايا المتحف المقصوف
لم يجدوا تماثيل آنو
قيل إن بعضها ظهر لاحقاً ما وراء البحر
إنليل أيضاً اختفت تماثيله
أصر أن يبقى إلهاً وأن يقاتل
ولم يزل الجنود يبحثون عنه إلى يوم الناس هذا