نسيانُ أمرٍ ما صعودٌ نحو باب الهاويهْ
هذا أنا أنسى نهاياتي وأصعدُ ثم أهبطُ. أين يُمْتَحنُ الصوابْ؟
هل في الطريق، أم الوصولِ إلى نهايات الطريق المُفْرحَهْ؟
وإذا وصلتُ فيكَيفَ أمشي؟ كيفَ أرفعُ فكرةً أو أغنيهْ
ضيَّقْتُ هاويتي لتكبر خطوتي فيها، وأجلستُ السماء على الحصى
وعليَّ أن أنسى لأنفضَ عن يديَّ سلاسل الطُرقِ الكثيرهْ
وعليَّ أن أنسى هزائميَ الأخيرة كي أرى أُفُقَ البدايهْ
وعليَّ أن أنسى البدايةَ كي أسيرَ إلى البدايةِ واثقاً منِّي ومِنها
ولأنني ما زلتُ أسألُ، لا أرى شكلاً لصوتي غيرَ قبوي
هل كان معيارُ الحقيقةِ دائماً سيفاً لأخفي فكرتي مُذْ طارَ سيفي؟
مَنْ يستطيعُ البحثَ عن سفحٍ لصوتٍ خرَّ في الوادي السحيقْ؟
مَنْ يستطيعُ البحث عن أممٍ أتانا صمتهُا عبر الخيول الفاتحهْ
وتزوَّجتْ لغةَ العدوِّ تعلمتْ أديانَهُ واستسلمتْ لغيابها
ماذا أرى مما جرى؟ هل أستطيع البحثَ عن مترٍ مُرَبَّعْ
لأحيل أُغنيتي إليه، خلفَ هندسةِ الخرابِ الصارمهْ
ولخطوتي الأولى. ألم أعرف تماماً شكل موتي
وحجارة القمر المبعثرِ، عندما أهديتُ موتي
لسلام أطفالٍ سينجبهم عَدُوِّي من نسائي
هل هكذا التاريخ لا يروي سوى سِيرَ الملوك الناجحينْ؟
دافعتُ عما لا أراهُ، لن أراهُ، ولن أراهُ، وعن سرير العاشقهْ
دافعتُ عن شجرٍ سيشنقني إذا ما عُدْتُ من لغتي إليهْ
دافعت عمَّا كان لي، ويفرُّ مني حين توقظهُ يدايْ
دافعت عمّا ليس لي. وسأستطيع إذا استطعتُ سأستطيع
أن أُرجعَ الماضي إلى ماضيهِ، أن استلَّ موعظةَ الجبلْ
ممَّن رآني سائراً متسائلاً بين الضحايا والشهودْ
ضيَّقْتُ هاويتي لأوضحَ خطوتي . وسأستطيعُ سأستطيعْ
أن أملأ الكلمات معناها وأن أحيا كما شاءت مشيئةُ رغبتي
هذا أنا أنسى نهاياتي وأصعدُ ثم أصعدُ نحو باب الهاويهْ
أهناك ما يكفي من الأفكار كي أختارَ خطوتي الأخيرهْ؟
أهناك مايكفي من البلدان كي أضعَ الكلامَ على الرصيف.. وأنصرفْ
أهناك ما يكفي من الكلمات كي أبني نوافِذَ لا تطلُّ على المذابحْ؟
أهناك ما يكفي من التاريخ كي أجدَ ابتهالاتِ الشعوبِ السابقهْ؟
أهناك ما يكفي من النسيان كي أنسى .. وأنسى
أنسى لأبتكر البداية من نهاية ما انتهى فينا. كسرتُ الدائرهْ
وكسرتُ نفسي كي أرى نفسي تدلّ على انتباه الأجنحهْ
وعليّ أحياناً. أنطعمُ خيلَنا لغةً، أنسرِجُها الكنايهْ؟
من ليس منّا صار منّا. افتحوا باب الحدائقِ في قيودي
يخرجْ إليكم ما أُريدُ من الكلام، وما أُريدُ من اليمامْ.
لم يبقَ لي شيءٌ لأخسرَهُ هنا. لم يبقً لي شيءٌ كي أراهْ
لم يبقَ لي شيءٌ يناديني ولا شيءٌ يضافُ إلى كتابات الكهوفْ
في قوّتي ضعفُ الممرِّ، وفي انكساري قوّةُ المعنى. فماذا
لو هبَّ نعناعٌ على أقفاص نفسي، وارتفعتُ على حطامي العاليهْ
ماذا لو اكتمل النشيدُ الحرُّ، وانهارتْ حدودُ الهاويهْ؟
ماذا لو انفضّ النّهارُ عليَّ من ثقب المدى؟ هي أغنيهْ
سيوّزعُ النسيانُ أعشاباً على جدرانها، وسنستعيدْ
أيامَ إخوتنا وتاريخ انبجاس الماء من حجر. فكم سنةً سنبقى
في قاع هاويةٍ نُعلم روحنا قدّاسَها وجناسَها
ونعيدُ للأسماء سكّاناً نسوا أسماءهم كي يتبعونا
ويُقايضوا دمهم برمّان البعيدْ؟
صدّقتُ أُغنيتي وكذّبتُ الخريفَ وليتني كذّبتُ أُغنيتي وصدّقتُ الخريفْ
هل يستطيعُ الوردُ في أحلامِ منْ مات النزولَ عن السياجْ؟
هل نستطيعُ العيشَ أكثرَ ما استطعنا كي نرى ذهبَ الكلامْ
خبزاً وفاكهةً؟ “أسأتُ إليك يا شعبي” أسأتُ كما أساء الحبُّ لي
وأصبتُ طفلاً بالأغاني حين قدّستُ المعاني وحدها
وتركتُ سكانَ القصيدةِ في مخيّمهم يعدّونَ الهواءَ على الأصابعْ
كم من أخٍ لك لم تلدْهُ الأم يولدُ من شظاياك الصغيرهْ؟
كم من عدوٍّ غامضٍ ولدته أمُّك يفصلُ الآن الظهيرةَ عن دمك؟
“أأسأتُ يا شعبي إليكَ” كما أساءَ إليّ آدمْ؟
ما أضيقَ الأرضَ التي لا أرضَ فيها للحنين إلى أحدْ!
كم مرةً ستعيدُ للأممِ المسيحَ على طبقْ
من فضةِ الموت الذي لا موت فيهِ ولا درجْ..
كم مرةً ستعيدُ للأشياءِ أوّلها وللأسماءِ فكرتها البسيطهْ
كم مرةً ستمرُّ وحدك في “الطريق إلى دمشق”، ولا ترى
غير الفراغ المرِّ، يا صحراءُ كوني نعمةً، كوني صغيرهْ
لتمرَّ قافلةُ الدعاءِ وقبضةُ القمح الأخيرهْ
كم مرةً ستكونُ آخرَ من يكونُ ولا يكونْ؟
يستدرجونك، فانتظرهم خارج المعنى ولا تلقِ السلامَ على أحدْ
واخطفْ خطاكَ من الخناجر، وارتفعْ أعلى من الشجرِ السحابةِ واللغهْ
وادخلْ إلى أنفاقِ نفسك كي ترى ما ليس فيهم.
يستدرجونك، فانتظرهم خارج الأشياء. كن شبحاً. وكنْ
شبحاً، ولا تخلعْ قناعَك عن دروعك. كنْ شبحْ
شبحَ البدايةِ والنهايةِ والمدى، أنت المدى. هي أغنيهْ
قطعوا يديّ وطالبوني أن أدافعَ عن حلبْ
واستأصلوا منّي خطاي وطالبوني أن أسير إلى صلاة الغائبين
أشعلتُ معجزتي وسرْتُ، فحاصروني، حاصروني، حاصروني
قالوا: انتظرْ، فنظرتُ. [لا تكسرْ موازينَ الرياحِ مع العدو]
ووقفتُ: قالوا: لا تقفْ. فمشيتُ ثانيةً، فقالوا: لا تسِرْ
[الحربُ فرٌّ. لا تحاربْ خارجَ الكلماتِ]. قلتُ: منِ العدوّ؟
[ارفعْ شعارك وانتظرهُ واعتذر عمّا فعلتْ]
ماذا فعلْتُ؟ [بحثْتَ وحدك عن خطاكَ ولم تبلّغْ سيِّدكْ]
من سيِّدي؟ قالوا: [الشعارُ على الجدار] فقلتُ: لا
لا سيّدٌ إلاّ دمي المحروقُ في جسدي يفتّش عن يديّْ
لتدقَّ بوابات هذا الليلِ. لا. لا سيّدٌ إلاّ دمي. هي أُغنيهْ
وعليَّ أن أجدَ الغناءَ لكيْ أسلّي من أُسلّي: قاتلي، وحبيبتي
وأنا أُحبُّ لأرفعَ الأنقاضَ عن نفسي، وأحياناً أحبُّ لكي أحبّ
ماذا سأفعلُ بعد جسمك، والشتاءُ هو الشتاء
عسلٌ عنيفٌ يرشدُ الأنثى إلى ذكرٍ، ويرشدني إلى عبثِ الكلامْ
دقّت حوافرُ هذه الأمطار خاصرتي، أألجأُ للقصيدهْ
وهي التي فتحت على حريتي منفايَ فيكِ، وأين أنت وأين أنتِ؟
في القاعِ يتضحُ الغيابُ، أرى الغيابَ، أجسّهُ وأراهُ جسماً للغيابْ
وأقيسُ هاويتي بما يبقى من النسيانِ، لا أنسى فأهبطُ في الجحيمْ
وأقيسُ هاويتي بما يبقى من النسيانِ، فاهبطْ أيها النسيانُ حبلاً للخروجْ
للخارجِ الهاوي. تعبتُ من الرجوع إلى مهبِّ الذاكرهْ
أنسى لأعرف أننا بشرٌ. وأنسى كي أجدّدَ وردتي
لا شيء فيَّ، ولا أماميَ، كي أرى خُبَّيْزةً حمراءَ في هذا الخرابْ
لا شيء فيكِ لكي أضحّي بالمدائحِ والجسدْ
لا شيء فينا كي نعودَ إلى مُساءلةِ الطبيعةِ والطبائعْ
لا شيء فينا كي نعلّقَ شارعاً فوق الصدى. هي أغنيهْ
وعليَّ أن أجدَ السماءَ هنا لأُصبحَ طائراً
وعليَّ أن أنسى لكي أجدَ الذي أنساهُ. ماذا أنتظرْ؟
لم يبقَ في تاريخ بابي ما يدلُّ على حضوري أو غيابي
بابٌ ليدخل أو ليخرجَ مَنْ يتوبُ ومَنْ يؤوبُ إلى الرموزْ
بابٌ ليحملَ هدهدٌ بعض الرسائلِ للبعيدْ
لم يبقَ في تاريخ بابي غيرُ خطوة مَنْ أريدُ ومن أحبّ،
كلَّ الذين كرهتهمْ مرُّوا ببابي حين نمتُ وحين قمتُ
من آدمَ المحكومِ بالصحراءِ حتى آخرَ الأعداءِ من أبناءِ أمِّي
أأنا الوحيد المستباحُ كشمسِ آبَ وتسميات الآلههْ؟
أأنا الوحيد الحرُّ في كلّ العصورِ وفي جميع الأمكنهْ
ليقيسَ كلَّ الناسِ، حُرياتهم بطلاق أُمِّي من أبي
هل متُّ من زمنٍ بعيدٍ واختفيت ولم يصدِّقني أحدْ؟
ويواصلون البحثَ عن قبري ليتفق الحليفُ مع العدوِّ على فضاء مشانقي
ويواصلون البحثَ عن صوتي لأشهد أنني … لا صوت لي
أو أنني نصفُ الطريق إلى التوابل والحرير.
أأنا استراحةُ من يحاربُ أو يفاوضُ.. أو يخاطب ربَّهُ
أو واحةٌ للقافلهْ !
لا أستطيعُ تأمُّلَ الأشياءِ وهي تعيشُ فيَّ لكي أغيب
وقُدِدْتُ من حجرٍ، وفي حجرٍ سُجِنْتُ. ومِنْ حجرْ
أطلعتُ نرجسةً لتُؤْنسَ صورتي أنا من هناكْ
وبكُلَّ ما أوتيتُ من حجرٍ سأجمعُ قوَّتي وخرافتي
لأكون صنواً لاسمي الحجريِّ, تخطيطاً لظلِّ لي، وظلِّ للمكانْ
ومسافةً قرب المسافةِ بين أسئلتي وأجوبِة السيوف الغادرهْ.
سأُمزِّق الصحراء فيِّ وحول أجوبتي. سأسكنُ صرختي
((أنا من رأى))…
أنا من رأى في ساعةِ الميلادِ صحراءً فأمسك حفنة العشب الأخيرهْ
سأكون ما وسعَتْ يدايَ من الأفق
سأُعيدُ ترتيبَ الدروب على خُطاي
سأكون ما كانتْ رؤاي.
((أنا من رأى))…
أنا مَنْ رأى نومَ التتارِ على الخيولِ الراكضهْ
أنا مَنْ رأى أَمعاءَهُ فوق الدوالي … فاقْتَرَبْ
أنا مَنْ رأى خمسينَ عَصراً جاثِماً فوق الدقيقةِ.. فاقْتَرَبْ
أنا مَنْ رأى تسعينَ والدةً لبنتٍ واحدهْ
أنا مَنْ رأى سرباً من الحشراتِ يصطادُ القمرْ
أنا مَنْ رأى في جرحِهِ تاريخَ هجراتِ الشعوب من الكهوفِ إلى المسارحْ
أنا مَنْ رأى ما لا يَرَى . هي أُغنيهْ
لا شيء يعنيها سوى إيقاعِها، ريحٌ تهبُّ لكي تهبَّ لذاتها. هي أُغنيهْ
حجرٌ يُشاهدُ عودةَ الأسرى إلى ما ليس فيهم؛ أُغنيهْ
قمرٌ يرى أسرارَ كُلِّ الناس حين يخبئون جنونهم في ضوئِهِ ويصدقون الأُغنيهْ
وهشاشةٌ تتفَقَّدُ الإنسان في آثارِهِ،
في قطعةِ الخزفِ القديمةِ؛ في أداة الصَّيْدِ، في لَوْحٍ يُؤوَّلُ؛ أُغنيهْ
لتمجِّدَ العبثَ الشقيَّ وقوةَ الأشياءِ في ما ليس يُدْرَكُ ’ أُغنيهْ
تُرسي, لتعرفَ نفسها، قانونَ غبطتها وتَرْحَلْ
لقراءة أُخرى تراها عكسَ ما كانتْ تُشيرُ ولا تشير.
هي أُغنيهْ
هي أُغنيهْ.