1
كسمكةٍ اخترقها رمح
جاءني هاتفٌ من دمشق يقول:
“أمك ماتت”.
لم أستوعب الكلمات في البدايه
لم أستوعب كيف يمكن أن يموت السمك كله
في وقتٍ واحد..
كانت هناك مدينة حبيبة تموت.. إسمها بيروت
وكانت هناك أمٌ مدهشة تموت.. إسمها فائزة..
وكان قدري أن أخرج من موتٍ..
لأدخل في موت آخر..
كان قدري أن أسافر بين موتين…
2
دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم،
الكويت، الجزائر، أبو ظبي وأخواتها..
هذه هي شجرة عائلتي..
كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها
وأرضعتني من ثديها..
وملأت جيوبي عنباً، وتيناً، وبرقوقاً..
كلها هزت لي نخلها.. فأكللت..
وفتحت سماواتها لي.. كراسةً زرقاء..
فكتبت..
لذلك، لا أدخل مدينةً عربيةً.. إلا وتناديني:
“يا ولدي”…
لا أطرق باب مدينةٍ عربية..
إلا وأجد سرير طفولتي بانتظاري..
لا تنزف مدينةٌ عربيةٌ إلا وأنزف معها…
فهل كان مصادفةً أن تموت بيروت..
وتموت أمي في وقتٍ واحد؟…
3
يعرفونها في دمشق باسم ( أم المعتز).
وبالرغم من أن اسمها غير مذكور في الدليل السياحي
وأهميتها التاريخية لا تقل عن أهمية (قصر العظم)
ومزار (محي الدين بن عربي).
وعندما تصل إلى دمشق..
فلا ضرورة أن تسأل شرطي السير عن بيتها..
لأن كل الياسمين الدمشقي يهرهر فوق شرفتها،
وكل الفل البلدي يتربى في الدلال بين يديها..
وكل القطط ذات الأصل التركي..
تأكل.. وتشرب.. وتدعو ضيوفها.. وتعقد
اجتماعاتها..
في بيت أمي..
4
نسيت أن أقول لكم، إن بيت أمي كان معقلاً للحركة الوطنية في الشام عام 1935. وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير. ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي..
وبعد كل اجتماع شعبي، كانت أمي تحصي عدد ضحاياها من أصص الزرع التي تحطمت.. والشتول النادرة التي انقصفت… وأعواد الزنبق التي انكسرت..
وعندما كانت تذهب إلى أبي شاكيةً له خسارتها الفادحة، كان يقول لها، رحمه الله، وهو يبتسم:
(سجلي أزهارك في قائمة شهداء الوطن.. وعوضك على الله…)
5
لا تذهب إلى الكوكتيلات وهي تلف ابتسامتها بورقة سولوفان..
لا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات…
لا تشتري ملابسها من لندن وباريس، وترسل تعميماً بذلك إلى من يهمه الأمر..
لا توزع صورها كطوابع البريد على محررات الصفحات الاجتماعية…
ولم يسبق لها أن استقبلت مندوبة أي مجلة نسائية، وحدثتها عن حبها الأول.. وموعدها الأول.. ورجلها الأول..
أمي تؤمن بربٍ واحد.. وحبيبٍ واحد.. وحبٍ واحد..
قهوة أمي مشهورة..
فهي تطحنها بمطحنتها النحاسية فنجاناً.. فنجاناً..
وتغليها على نار الفحم.. ونار الصبر..
وتعطرها بحب الهال..
وترش على وجه كل فنجان قطرتين من ماء الزهر..
لذلك تتحول شرفة منزلنا في الصيف..
إلى محطةٍ تستريح فيها العصافير..
وتشرب قهوتها الصباحية عندنا..
7
ومن كثرة الأزهار، والألوان، والروائح التي
أحاطت بطفولتي كنت أتصور أن أمي.. هي
موظفة في قسم العطور بالجنة..
8
بموت أمي..
يسقط آخر قميص صوفٍ أغطي به جسدي
آخر قميص حنان..
آخر مظلة مطر..
وفي الشتاء القادم..
كل النساء اللواتي عرفتهن
وحدها أمي..
أحبتني وهي سكرى..
فالحب الحقيقي هو أن تسكر..
ولا تعرف لماذا تسكر..
كلما نسيت ورقةً من أوراقي في صحن الدار..
فتحولت الألف إلى (امرأة)..
والباء إلى (بنفسجة)
والدال إلى (دالية)
والراء إلى (رمانة)
والسين إلى (سوسنة) أو (سمكة) أو (سنونوة).
ولهذا يقولون عن قصائدي إنها (مكيفة الهواء)..
ويشترونها من عند بائع الأزهار..
لا من المكتبة…
11
كلما سألوها عن شعري، كانت تجيب:
” ملائكة الأرض والسماء.. ترضى عليه”.
طبعاً.. أمي ليست ناقدة شعر موضوعية..
ولكنها عاشقة. ولا موضوعية في العشق.
فيا أمي. يا حبيبتي. يا فائزة..
قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي خمسين
عاماً، أن لا يتركوني…
لأنني أخاف أن أنام وحدي…
والدال إلى (دالية)
والراء إلى (رمانة)
والسين إلى (سوسنة) أو (سمكة) أو (سنونوة).
ولهذا يقولون عن قصائدي إنها (مكيفة الهواء)..
ويشترونها من عند بائع الأزهار..
لا من المكتبة…
11
كلما سألوها عن شعري، كانت تجيب:
” ملائكة الأرض والسماء.. ترضى عليه”.
طبعاً.. أمي ليست ناقدة شعر موضوعية..
ولكنها عاشقة. ولا موضوعية في العشق.
فيا أمي. يا حبيبتي. يا فائزة..
قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي خمسين
عاماً، أن لا يتركوني…
لأنني أخاف أن أنام وحدي…