سُبحانَ مَن لم تَحوِه أَقطارُ
ولم تكنْ تُدركُهُ الأَبصارُ
وَمن عَنت لوجهه الوجوهُ
فما له نِدٌّ ولا شَبيهُ
سبحانَه مِن خالقٍ قديرِ
وعالمٍ بِخلْقهِ بَصيرِ
وأَوَّلٍ ليس له ابتداءُ
وآخِرٍ ليس له انتهاءُ
أَوْسَعنا إحسانُه وفضلُهُ
وعَزَّ أَن يكونَ شيءٌ مثلُهُ
وجَلَّ أَنْ تُدْركَهٌ العُيونُ
أَو يَحْوياه الوَهم والظُّنونُ
لكنَّه يُدرَك بالقَريحَه
والعَقلِ والأَبْنيةِ الصَّحيحَه
وهذه مِن أثبتِ المعارفْ
في الأَوْجهِ الغامضَةِ اللَّطائفْ
مَعْرفةُ العَقْل من الإنسانِ
أثبتُ من مَعرفةِ العِيانِ
فالحمْدُ للَّهِ على نَعْمائِهِ
حمداً جزيلاً وعلى آلائِهِ
وبعدَ حَمْدِ اللَّه والتَّمجيدِ
وبعد شُكرِ المُبدئِ المُعيدِ
أقولُ في أَيامِ خيرِ الناسِ
ومَن تحلَّى بالنَّدى والباسِ
ومن أبادَ الكُفرَ والنِّفاقا
وشَرَّد الفتْنة والشِّقاقا
ونحنُ في حَنادسٍ كاللّيلِ
وفتنةٍ مثلِ غُثاءِ السَّيلِ
حتى تولَّى عابدُ الرحمنِ
ذاكَ الأَغرُّ من بني مروانِ
مُؤيَّدٌ حَكّمَ في عُداتِه
سيفاً يَسيلُ الموتُ من ظُباتِهِ
وصَبَّحَ المُلكَ معَ الهلالِ
فأصبحَا نِدَّيْنِ في الجمالِ
واحتملَ التَّقوى على جَبينهِ
والدينَ والدُّنيا على يمينهِ
قد أَشرقتْ بنُورهِ البلادُ
وانقطعَ التَّشغيبُ والفسادُ
هذا على حينَ طغَى النِّفاقُ
واستفحلَ النُّكّاثُ والمُرَّاقُ
وضاقتِ الأَرضُ على سُكانِها
وأذْكتِ الحربُ لظَى نيرانِها
ونحنُ في عَشواءَ مُدلهمَّهْ
وظُلمةٍ ما مثلُها مِن ظُلمهْ
تأخذُنا الصَّيحةُ كُلَّ يومِ
فما تَلذُّ مُقْلةٌ بنَوْمِ
وقد نُصلِّي العيدَ بالنواظِرِ
مخافةً من العدوَّ الثائِرِ
حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ
طَبَّقَ بينَ الأَرْضِ والسماءِ
خَليفةُ اللَّهِ الَّذي اصطفاهُ
على جميع الخَلقِ واجْتباهُ
من مَعدنِ الوحيِ وبَيْتِ الحكمَهْ
وخيْرِ منسوبٍ إلى الأئمَّهْ
تَكِلُّ عن مَعروفهِ الجنائبُ
وتَسْتحي من جُوده السَّحائبُ
في وجههِ من نُورهِ برهانُ
وكفُّه تقْبيلُها قُرْبانُ
أَحْيا الّذي ماتَ منَ المَكارِمِ
من عَهدِ كعْبٍ وزمانِ حاتِمِ
مَكارمٌ يَقصُرُ عنها الوَصْفُ
وغُرَّةٌ يَحْسرُ عنها الطَّرفُ
وشِيمةٌ كالصَّابِ أَو كالماءِ
وهِمَّةٌ ترقَى إِلى السَّماءِ
وانظرْ إلى الرفيعِ من بُنيانِهِ
يُريكَ بِدْعاً من عَظيم شَانِهِ
لو خايل البحرُ نَدَى يَديهِ
إذا لجَت عُفاتُهُ إليهِ
لغاضَ أَو لكادَ أَن يَغِيضا
ولاسْتَحى من بعدُ أَنْ يَفيضا
مَن أَسبغَ النُّعمى وكانتْ مَحْقَا
وفتَّق الدُّنيا وكانتْ رَتْقا
هو الذي جمَّع شَمْلَ الأُمَّهْ
وجابَ عنها دامِساتِ الظُّلمَهْ
وجَدَّدَ المُلكَ الذي قد أَخْلَقا
حتى رَسَت أَوتادُهُ واسْتَوسقا
وجَمَّعَ العُدَّةَ والعَدِيدا
وكَثَّفَ الأَجْنادَ والحُشودا
ثم انتحَى جَيَّانَ في غَزاتهِ
بِعَسْكرٍ يَسْعرُ مِن حُماتِهِ
فاستنزلَ الوحشَ مِنَ الهضابِ
كأَنَّما حُطَّتْ منَ السَّحابِ
فأَذعنتْ مُرَّاقُها سِراعَا
وأَقبلتْ حُصونُها تَداعَى
لمَّا رماها بسُيوفِ العَزْمِ
مَشْحوذةٍ على دُروعِ الحَزْمِ
كادتْ لها أَنفُسُهُمْ تَجودُ
وكادتِ الأَرضُ بهم تَميدُ
لولا الإِلهُ زُلزلتْ زِلزالَها
وأَخْرَجتْ من رَهْبةٍ أَثقالَها
فأَنزلَ الناسَ إلى البَسيطِ
وقَطَّعَ البَيْنَ منَ الخَليطِ
وافتَتَحَ الحُصونَ حِصناً حِصنا
وأَوْسعَ الناسَ جميعاً أَمْنا
ولم يَزلْ حتى انْتَحى جَيَّانا
فلم يَدَعْ بأَرْضِها شَيطانا
فأصبحَ الناسُ جميعاً أُمَّه
قد عقَد الإِلَّ لهم والذِّمَّه
ثم انتَحى من فَورهِ إِلْبيرَهْ
وهي بِكلَّ آفةٍ مَشهورَهْ
فداسَها بِخَيلهِ ورَجْلهِ
حتى تَوطَّا خَدَّها بِنَعْلهِ
ولم يَدَعْ من جِنِّها مَرِيدا
بِها ولا من إِنسها عَنيدا
إِلا كَساهُ الذُّلَّ والصَّغارا
وعَمَّهُ وأَهلهُ دَمارا
فما رأيتُ مثلَ ذاكَ العامِ
ومثلَ صُنعِ اللَّه للإِسلامِ
فانصرفَ الأميرُ من غَزاتِهِ
وقد شَفاهُ اللَّهُ من عُداتهِ
وقبلَها ما خَضعتْ وأذعنتْ
إِستِجةُ وطالما قد صَنعتْ
وبعدها مدينة الشِّنِّيلِ
ما أَذعنتْ للصَّارمِ الصَّقيلِ
لما غَزاها قائدُ الأَميرِ
باليُمنِ في لِوائهِ المنْصورِ
فأسلمتْ ولم تكنْ بالمُسلمةْ
وزالَ عنها أَحمدُ بنُ مَسْلمهْ
وبعدَها في آخرِ الشُّهورِ
من ذلك العامِ الزَّكيِّ النُّورِ
أَرْجفتِ القِلاعُ والحُصونُ
كأَنَّما ساوَرَها المَنُونُ
وأقبلتْ رجالُها وُفودا
تبْغِي لدَى إِمامها السُّعودا
وليسَ مِن ذِي عزَّة وشدَّه
إلا توافَوا عندَ بابِ السُّدَّه
قلُوبُهمْ باخعَةٌ بالطَّاعهْ
قد أَجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعَهْ
ثم غزا في عُقبِ عامٍ قابلِ
فجالَ في شَذُونةٍ والسَّاحلِ
ولو يَدَعْ رُيَّةَ والجزيرَهْ
حتى كوَى أَكلبَها الهريرَهْ
حتى أناخ في ذُرى قرْمونَه
بكَلْكلٍ كَمُدْرهِ الطَّاحُونَه
على الذي خالفَ فيها وانتزَى
يُعْزَى إلى سَوادةٍ إذا اعتزَى
فسالَ أن يُمهلَهُ شُهورا
ثم يكونُ عبدهَ المأمُورا
فأَسعفَ الأميرُ منهُ ما سألْ
وعادَ بالفَضْلِ عليهِ وقَفلْ
كانَ بها القُفولُ عندَ الجيَّه
من غَزْو إِحدى وثلثميَّه
فلم يَكنْ يُدرَكُ في باقيها
غزْوٌ ولا بَعْثٌ يكونُ فيها
ثُمَّتَ أغزى في الثلاثِ عَمَّهْ
وقد كساهُ عَزْمَه وحزْمهْ
فسارَ في جَيْشٍ شديدِ الباسِ
وقائدُ الجيْش أَبو العبَّاسِ
حتى تَرقَّى بذُرى بُبَشْتَر
وجالَ في ساحاتها بالعسكرْ
فلم يَدَع زَرْعاً ولا ثمارا
لهم ولا عِلقاً ولا عُقارَا
وقطَّع الكُرومَ منها والشجرْ
ولم يُبايع عِلجُها ولا ظهَرْ
ثم انثنى من بعدِ ذاكَ قافلا
وقد أَبادَ الزَّرعَ والمآكِلا
فأيقنَ الخِنزيرُ عِنْدَ ذاكا
أَنْ لا بقاءَ يُرتَجى هُناكا
فكاتَبَ الإمامَ بالإِجابَه
والسَّمْعِ والطَّاعةِ والإنابَه
فأخْمدَ اللَّهُ شِهابَ الفِتْنه
وأَصْبحَ الناسُ معاً في هُدْنه
وارتعتِ الشاةُ معاً والذِّيبُ
إِذْ وَضعتْ أوزارَها الحرُوبُ
وبعدها كانتْ غَزاةُ أَرْبعِ
فأيَّ صُنْعٍ ربُّنا لم يَصْنَعِ
فيها ببَسْطِ المَلِك الأَوَّاه
كِلتْا يَديه في سَبيلِ اللّهِ
هذا إلى الثَّغرِ وما يليهِ
على عدوِّ الشِّركِ أو ذويهِ
وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه
وما مَضى جرى إلى بَلَنسيَه
فكانَ مَن وَجَّهه للساحلِ
القرشيُّ القائدُ القنابلِ
وابنُ أَبي عَبْدةَ نحوَ الشِّرْكِ
في خَيْرِ ما تَعبيةٍ وشكِّ
فأقبلا بكُلِّ فَتْحٍ شاملِ
وكُلِّ ثكلٍ للعدوِّ ثاكلِ
وبعدَ هذي الغَزوةِ الغَرَّاءِ
كانَ افتتاحُ لَبْلةَ الحَمْراءِ
أغزَى بجُندٍ نحوَها مَولاهُ
في عُقبِ هذا العامِ لا سواهُ
بَدراً فضمَّ جانبَيْها ضمَّه
وغَمَّها حتَّى أجابتْ حُكمَه
وأسْلمتْ صاحبَها مَقهورا
حتى أتى بدرٌ به مَأسُورا
وبعدَها كانتْ غَزاةُ خَمْسِ
إلى السَّوَاديِّ عقيدِ النَّحْسِ
لما طَغى وجاوزَ الحُدودا
ونَقضَ الميثاقَ والعُهودا
ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائهِ
ومِن تَعدِّيه وسُوءِ رائِهِ
أَغزى إِليه القُرشيَّ القائدا
إذ صارَ عن قَصْدِ السبيلِ حائدا
ثُمَّتَ شَدَّ أَزرَهُ ببَدْرِ
فكانَ كالشَّفعِ لهذا الوتْرِ
أحذَقَها بالخيلِ والرِّجالِ
مُشمِّراً وجدَّ في القتالِ
فنازلَ الحِصْنَ العظيمَ الشانِ
بالرَّجلِ والرُّماةِ والفُرسانِ
فلم يَزل بدرٌ بها محاصرا
كذا على قِتاله مُثابرَا
والكلبُ في تهوُّرٍ قدِ انغمَسْ
وضُيِّقَ الحَلْقُ عليهِ والنَّفَسْ
فافترقَ الأصحابُ عن لوائهِ
وَفَتحوا الأبوابَ دونَ رائهِ
واقتحم العَسكرُ في المدينَه
وهُو بها كهيْئةِ الظعينَهْ
مُسْتسلماً للذُّلِّ والصَّغارِ
ومُلقِياً يَديهِ للإسارِ
فنزَعَ الحاجبُ تاجَ مُلْكِهِ
وقادَه مُكَتَّفاً لِهُلْكِهِ
وكانَ في آخِرِ هذا العامِ
نَكْبُ أَبي العبَّاسِ بالإسلامِ
غَزا وكانَ أَنجدَ الأَنجادِ
وقائداً من أَفحلِ القُوَّادِ
فسارَ في غيْرِ رجالِ الحَرْبِ
الضَّاربينَ عند وَقْتِ الضَّربِ
مُحارباً في غيرِ ما مُحاربِ
والحشَمُ الجُمهورُ عندَ الحاجبِ
واجتمعتْ إِليه أَخلاطُ الكُوَرْ
وغابَ ذو التَّحصيلِ عنهُ والنَّظرْ
حتى إذا أَوْغلَ في العَدُوِّ
فكانَ بينَ البُعدِ والدُّنوِّ
أَسلمهُ أهلُ القُلوبِ القاسِيهْ
وأَفْردوهُ للكِلابِ العاويهْ
فاستُشهدَ القائدُ في أَبْرارِ
قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي
في غير تَأخيرٍ ولا فِرارِ
إلا شديدَ الضَّربِ للكُفّارِ
ثم أَقادَ اللَّهُ من أعْدائهِ
وأَحْكَم النصرَ لأوْليائهِ
في مَبدأ العامِ الذي مِن قابلِ
أَزْهقَ فيهِ الحقُّ نَفْسَ الباطلِ
فكان مِن رأيِ الإمامِ الماجدِ
وخَيْرِ مَولودٍ وخَيْرِ والدِ
أَنِ احتَمى بالواحِدِ القهَّارِ
وفاضَ مِن غَيظٍ على الكُفَّارِ
فجمَّعَ الأجنادَ والحُشودَا
ونَفَّرَ السَّيِّدَ والمَسودَا
وحَشَرَ الأطرافَ والثُّغورَا
ورَفضَ اللَّذاتِ والحُبورَا
حتَّى إذا ما وَفتِ الجنُودُ
واجتمَعَ الحُشَّادُ والحُشودُ
قَوَّدَ بدراً أمرَ تلك الطائفَهْ
وكانتِ النَّفسُ عليه خائفَهْ
فسارَ في كَتائبٍ كالسَّيلِ
وعَسكَرٍ مِثلِ سَوادِ اللَّيلِ
حتَّى إذا حَلَّ على مُطْنيَه
وكانَ فيها أخبثُ البريَّهْ
ناصبَهم حرباً لها شَرارُ
كأنَّما أُضرِمَ فيها النارُ
وجدَّ من بينهِمُ القتالُ
وأحْدقتْ حولَهمُ الرجالُ
فحاربُوا يومَهمُ وباتُوا
وقد نَفتْ نومَهمُ الرُّماةُ
فهم طَوالَ الليلِ كالطَّلائحِ
جراحُهم تَنْغل في الجوارحِ
ثمَّ مَضَوْا في حَرْبهم أيّاما
حتَّى بدا الموتُ لهم زُؤاما
لمّا رأَوا سحائبَ المَنيَّه
تُمطِرُهم صَواعِق البليّه
تَغَلْغَلَ العُجمُ بأرضِ العُجمِ
وانحشَدوا مِن تحتِ كُلِّ نجمِ
فأقبلَ العِلْجُ لهم مُغِيثَا
يومَ الخَمِيسِ مُسْرعاً حَثِيثا
بين يديهِ الرَّجلُ والفَوارسُ
وحولَهُ الصُّلبانُ والنَّواقسُ
وكان يَرجُو أنْ يُزيل العَسْكرا
عن جانبِ الحِصْن الذِي قد دُمِّرا
فاعتاقَه بدرٌ بمن لَديهِ
مُستبصِراً في زَحْفِهِ إِليهِ
حتى التَقتْ مَيْمنةٌ بمَيْسرَه
واعتنَّتِ الأرْواحُ عندَ الحنْجره
ففازَ حِزْبُ اللَّهِ بالعِلْجانِ
وانهزمتْ بِطانةُ الشَّيطانِ
فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيا
وأَدبر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا
وانصَرفَ الناسُ إلى القُلَيعَه
فصبّحوا العَدوَّ يومَ الجُمعه
ثم التقى العِلْجانِ في الطَّريق
البَنْبلونيُّ مع الجِلِّيقي
فأعقَدا على انتهابِ العَسكرِ
وأَن يَموتا قبلَ ذاكَ المحْضرِ
وأَقْسما بالجبْتِ والطَّاغوتِ
لايُهْزَما دونَ لِقاءِ الموْتِ
فأَقبلوا بأَعظم الطُّغيانِ
قد جَلَّلوا الجِبالَ بالفُرسانِ
حتى تَداعى الناسُ يومَ السبتِ
فكانَ وقتاً يا لَهُ من وقْتِ
فأُشرعتْ بَينهمُ الرِّماحُ
وقد علا التَّكبيرُ والصِّياحُ
وفارقتْ أَغمادَها السُّيوفُ
وفَغرتْ أفواهَا الحتُوفُ
والتقتِ الرِّجالُ بالرِّجالِ
وانغمَسوا في غَمْرةِ القتالِ
في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ
وقَصُرت في طُولهِ الأَعمارُ
وهبّ أهلُ الصَّبرِ والبَصائرِ
فأوعَقوا على العدوِّ الكافرِ
حتى بدتْ هزيمةُ البَشكنسِ
كأَنَّهُ مُخْتضبٌ بالوَرْسِ
فانقضَّتِ العقبانُ والسَّلالقهْ
زَعْقاً على مُقدَّم الجلالِقهْ
عِقبانُ موتٍ تخطفُ الأرواحا
وتُشبعُ السيوفَ والرِّماحا
فانهزمَ الخِنزيرُ عندَ ذاكا
وانكشفتْ عَورتُه هناكا
فقُتِّلوا في بَطنِ كلِّ وادِي
وجاءتِ الرُّؤوسُ في الأعْوادِ
وقَدَّم القائدُ ألفَ راسِ
مِن الجَلاليق ذَوي العمَاسِ
فتمَّ صُنعُ اللَّهِ للإسلامِ
وعَمَّنا سرورُ ذاكَ العامِ
وخيرُ ما فيهِ من السُّرورِ
موتُ ابن حَفْصونَ به الخنزيرِ
فاتَّصلَ الفتحُ بفتحٍ ثانِ
والنَّصرُ بالنَّصرِ من الرحمنِ
وهذه الغزاةُ تُدعى القاضِيَه
وقد أتَتهمْ بعد ذاك الدَّاهِيه
وبعدها كانت غزاةُ بَلده
وهِي التي أوْدَتْ بأهلِ الرِّدَّه
وبَدْؤها أَنَّ الإمامَ المصطفى
أصدقَ أهلِ الأرضِ عدلاً ووَفَا
لما أَتتْهُ ميتةُ الخِنْزيرِ
وأَنه صارَ إلى السَّعيرِ
كاتَبَه أَولادُه بالطاعَهْ
وبالدُّخولِ مَدْخلَ الجماعه
وأنْ يُقِرَّهم على الولايَهْ
على دُرورِ الخَرْجِ والجِبايَهْ
فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ
ولم يَزَل مِن رأيهِ التفضُّلُ
ثمَّ لَوى الشَّيطانُ رأسَ جَعفرِ
وصارَ منهُ نافخاً في المُنخُرِ
فَنقَضَ العُهودَ والميثاقا
واستعملَ التَّشْغِيبَ والنِّفاقا
وضَمَّ أهلَ النُّكْث والخلافِ
من غيرِ ما كافٍ وغيرِ وافِ
فاعتاقه الخليفةُ المُؤيَّدُ
وهو الذي يُشقَى به ويُسْعَدُ
ومَنَ عليهِ مِن عُيونِ اللَّهِ
حوافظٌ من كُلِّ أمرٍ داهي
فَجَنَّدَ الجُنودَ والكتَائبا
وقَوَّدَ القُوَّادَ والمقَانبا
ثم غَزا في أَكثرِ العديدِ
مُسْتَصحبَاً بالنَّصرِ والتَّأييدِ
حتَّى إذا مَرَّ بِحصْنِ بَلدَه
خَلَّفَ فيهِ قائداً في عِدَّهْ
يَمنعُهم مِن انتشارِ خَيلهمْ
وحارساً في يَومِهم ولَيلهِمْ
ثمَّ مَضى يستنزِلُ الحُصونا
ويَبعثُ الطِّلاعَ والعُيونا
حتى أَتاهُ باشِرٌ من بَلَدَهْ
يعدو برأَسِ رأسِها في صَعدَهْ
فقدَّمَ الخيْلَ إليها مُسرعاً
واحتلَّها مِن يومهِ تَسرُّعا
فحفَّها بالخيْلِ والرُّماةِ
وجُملةِ الحُماةِ والكُماةِ
فاطَّلعَ الرَّجْلُ على أَنْقابها
واقتحمَ الجُنْدُ على أَبوابِها
فأَذَعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنَهْ
واسْتسلمتْ كافرةٌ لمؤمنَهْ
فقُدِّمتْ كُفّارُها للسَّيفِ
وقُتِّلوا بالحَقِّ لا بالحَيفِ
وذاكَ منْ يُمنِ الإمام المُرتَضَى
وخيرِ مَنْ بَقي وَخَيرِ مَنْ مَضَى
ثمّ انتَمى مِن فَورِهِ بِبُشتَرا
فلم يدعْ بها قضيباً أخضرا
وحَطَّمَ النَّباتَ والزُّروعا
وهَتكَ الرِّباع والرُّبوعا
فإِذْ رأى الكلبُ الذي رآهُ
من عَزْمهِ في قَطْع مُنْتواهُ
أَلقَى إليهِ باليدين ضارعا
وسالَ أَن يُبْقى عليهِ وادِعا
وأَنْ يكونَ عاملاً في طاعتِهْ
على دُرورِ الخَرْجِ مِن جِبايتِهِ
فَوَثَّقَ الإمامُ من رِهانِهْ
كيلا يكونَ في عمىً من شانِهْ
وقَبِلَ الإمام ذاكَ مِنْهُ
فضلاً وإحساناً وسارَ عنهُ
ثمَّ غزا الإمامُ دارَ الحَرْبِ
فكانَ خَطباً يا لهُ من خَطبِ
فحُشِّدت إليهِ أَعلامُ الكُوَرْ
ومَن لَهُ في النَّاسِ ذِكرٌ وخطَرْ
إلى ذَوي الدِّيوانِ والرَّاياتِ
وكُلِّ مَنْسوبٍ إلى الشَّاماتِ
وكُلِّ مَن أَخلصَ للرّحمنِ
بطاعةٍ في السرِّ والإعلانِ
وكُلّ من طاوعَ في الجهادِ
أَو ضمَّهُ سَرْجٌ على الجيادِ
فكانَ حشداً يا لهُ من حَشدِ
من كل حُرٍّ عندنا وعبدِ
فتحسبُ النَّاسَ جراداً منتشرْ
كما يقولُ ربُّنا فيمن حُشِرْ
ثم مَضى المُظَفَّرُ المنصورُ
على جَبِينه الهدى والنُّورُ
أَمامَهُ جُندٌ من الملائكهْ
آخذةٌ لربِّها وتاركهْ
حتَّى إذا فَوَّزَ في العَدوِّ
جنَّبهُ الرحمنُ كُلَّ سَوِّ
وأَنزلَ الجزيةَ والدَّواهِي
على الذينَ أَشركوا باللّهِ
فزُلزلتْ أَقدامُهم بالرُّعبِ
واستُنْفِروا مِن خَوفِ نارِ الحَرْبِ
واقَتَحموا الشِّعابَ والمَكامِنا
وأَسْلموا الحُصونَ والمَدائِنا
فما بقي من جَنَباتِ دُورِ
مِن بَيعةٍ لراهبٍ أو دَيْرِ
إِلا وقد صَيَّرها هَباءَ
كالنَّارِ إذ وافَقتِ الآباءَ
وزَعزعتْ كتائبُ السلطانِ
لكُلِّ ما فِيها منَ البُنْيانِ
فكانَ مِن أَوَّلِ حصْنٍ زعْزعُوا
ومَن بهِ من العدوِّ أَوْقعُوا
مَدينةٌ مَعْرُوفةٌ بوخْشَمَهْ
فغادَروها فَحمةً مُسخَّمهْ
ثمَّ ارتقَوا منها إلى حَواضرِ
فغادروها مثلَ أَمسِ الدَّابرِ
ثمَّ مَضَوْا والعِلجُ يَحْتذيهِمُ
بجيْشهِ يَخشى ويَقْتفيهمُ
حتى أتوا تَوّاً لوادِي دَيِّ
ففيهِ عفَّى الرُّشدُ سُبْلَ الغَيِّ
لما التقَوْا بمَجمعِ الجَوْزينِ
واجتمعتْ كتائبُ العِلْجينِ
مِن أَهل ألْيون وبَنبلونَهْ
وأَهلِ أَرنيط وبَرْشلُونَهْ
تضافرَ الكُفرُ معَ الإلحادِ
واجتمعوا مِن سائرِ البلادِ
فاضطربوا في سَفحِ طَوْدٍ عالِ
وصَفَّفوا تَعبيةَ القتالِ
فبادرتْ إليهمُ المُقدِّمَهْ
ساميةً في خَيلها المُسوَّمهْ
ورِدُّها مُتَّصلٌ برِدِّ
يُمدُّه بحرٌ عظيمُ المَدِّ
فانهزمَ العِلجانِ في عِلاجِ
ولَبسوا ثوباً من العَجاجِ
كلاهما يَنظُرُ حيناً خَلفَهُ
فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفَهُ
والبِيضُ في إِثرِهم والسُّمرُ
والقَتْلُ ماضٍ فيهمُ والأَسْرُ
فلم يكُن للنَّاسِ مِنْ بَراحِ
وجاءَتِ الرُّؤوسُ في الرِّماحِ
فأمرَ الأَميرُ بالتَّفْويضِ
وأَسْرعَ العَسكَرُ في النُّهوضِ
فصادفُوا الجُمهورَ لما هُزمُوا
وعايَنوا قُوَّادَهم تُخُرّمُوا
فدخَلوا حَديقَةً للموتِ
إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوتِ
فيا لَها حديقةً ويا لَها
وافتْ بها نفوسُهم آجالَها
تحصَّنوا إِذ عايَنوا الأَهْوالا
لمَعقلٍ كان لهم عِقالا
وصَخرةٍ كانت عليهم صَيْلما
وانقلبوا منها إلى جَهنَّما
تَساقطوا يَستطعمونَ الماءَ
فأُخرجتْ أرواحُهم ظِماءَ
فَكَم لِسَيفِ اللَّهِ من جَزُورِ
في مَأدبِ الغرْبانِ والنُّسورِ
وكم به قَتلى منَ القساوسِ
تندبُ للصُّلبانِ والنُّواقسِ
ثمَّ ثَنى عنانَهُ الأَميرُ
وحولهُ التهليلُ والتَّكبيرُ
مُصمِّماً بحرْبِ دارِ الحربِ
قُدَّامَهُ كتائبٌ من عُرْبِ
فداسَها وسامَها بالخسْفِ
والهتْكِ والسَّفكِ لها والنَّسْفِ
فحرَّقوا ومَزَّقوا الحُصونا
وأسْخنوا من أَهلها العُيونَا
فانظرُ عنِ اليمينِ واليسارِ
فما تَرى إلَّا لهيبَ النَّارِ
وأصبحتْ ديارُهم بلاقعا
فما نَرى إلَّا دُخاناً ساطِعا
ونُصر الإمامُ فيها المُصطفى
وقد شَفى من العدوِّ واشتَفى
وبعدها كانت غَزاةُ طُرَّشْ
سَما إليها جيشهُ لم يُنْهَش
وأَحدقتْ بحِصْنها الأَفاعي
وكُلُّ صِلٍّ أَسْودٍ شُجاعِ
ثمَّ بَنى حِصْناً عليها راتبا
يَعْتَوِرُ القُوَّادَ فيهِ دائبا
حتّى أَنابتْ عَنوةً جِنانُها
وغابَ عن يافوخِها شيطانُها
فأَذْعنتْ لسيَّدِ السَّاداتِ
وأكرمِ الأحياءِ والأمواتِ
خليفةِ اللَّه على عِبادِهِ
وخيرِ مَنْ يَحكم في بلادِهِ
وكانَ موتُ بدرٍ بنِ أَحمدِ
بعدَ قُفولِ المَلكِ المُؤيَّدِ
واستحجبَ الإمامُ خيْرَ حاجبِ
وخيْرَ مَصحوبٍ وخَيرَ صاحبِ
مُوسى الأَغرَّ من بني حُدَيرِ
عَقيدَ كُلِّ رأفةٍ وخَيرِ
وبعدها غَزاةُ عَشْرِ غَزْوَه
بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ
غزا الإمامُ في ذوي السُّلطانِ
يَؤُمُّ أَهلَ النُّكْثِ والطُّغيانِ
فاحتلَّ حِصْنَ منتلونَ قاطعا
أَسبابَ منَ أَصبح فيه خالعا
سارَ إليهِ وبَنَى عليهِ
حتّى أتاهُ مُلقياً يديهِ
ثمَّ انثنى عنه إلى شَذُونَهْ
فعاضَها سَهلاً من الحُزونَهْ
وساقَها بالأهلِ والولدانِ
إلى لُزومِ قُبَّةِ الإيمانِ
ولم يدَعْ صَعْباً ولا مَنيعا
إِلَّا وقد أَذلَّهمْ جميعا
ثم انثنَى بأطيبِ القفُولِ
كما مَضى بأَحسنِ الفُضُولِ
وبعدها غزاةُ إحدَى عشَرَهْ
كم نَبَّهتْ من نائمٍ في سَكْرَهْ
غزا الإمامُ يَنْتحي بِبُشْتَرا
في عسْكرٍ أَعظمْ بذاكَ عَسْكرا
فاحتلَّ مِن بُبَشْتَرا ذَراها
وجالَ في شاطٍ وفي سواها
فخرَّب العُمرانَ من بُبشْتَرِ
وأذعنتْ شاطٌ لربِّ العَسكرِ
فأدخلَ العُدَّةَ والعديدا
فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدا
ثمَّ انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْمِ
فداسها بالقَضْمِ بعدَ الخضْمِ
ما كانَ من سواحِلِ البُحورِ
منها وفي الغاباتِ والوعُورِ
وأَدخلَ الطاعةَ في مكان
لم يدْرِ قطُّ طاعةَ السُّلطانِ
ثمَّ رَمى الثَّغرَ بخيرِ قائدِ
وزادهم عنه بخيرِ ذائدِ
به قَما اللَّهُ ذوي الإشراكِ
وأنقذَ الثَّغرَ من الهلاكِ
وانتاشَ من مَهْواتِها تُطيله
وقد جَرت دماؤُها مَطلُولَهْ
وطَهَّرَ الثَّغرَ وما يَليهِ
من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ
ثمَّ انثَنى بالفَتحِ والنَّجاحِ
قد غيَّرَ الفسادَ بالصَّلاحِ
وبعدها غَزاةُ اِثْنتَيْ عَشَرَهْ
وكم بها من حَسْرَةٍ وعِبرَهْ
غزا الإمامُ حولَه كتائبُه
كالبدْرِ محفوفاً به كواكبُه
غزا وسيفُ النَّصر في يَمينهِ
وطالعُ السَّعدِ على جَبينهِ
وصاحبُ العسكرِ والتَّدبيرِ
موسى الأغرُّ حاجبُ الأميرِ
فدمَّر الحُصونَ من تدْميرِ
واستنزلَ الوحشَ من الصَّخورِ
فاجتمعتْ عليهِ كُلُّ الأمّة
وبايعتْهُ أُمَراءُ الفِتْنهْ
حتّى إذا أَوعبَ من حُصونها
وجَمَّلَ الحقَّ على مُتونِها
مَضى وسارَ في ظلالِ العَسكَرِ
تحتَ لواءِ الأسدِ الغَضَنْفَرِ
رجالُ تُدميرٍ ومَن يَليهمُ
من كلِّ صِنفٍ يُعتزى إليهمُ
حتّى إذا حَلَّ على تُطيلَهْ
بكتْ على دمائِها المَطْلولَهْ
وعظْمِ ما لاقَتْ من العدوِّ
والحربِ في الرَّواحِ والغُدوِّ
فهمَّ أَن يُديخَ دار الحربِ
وأَن تكونَ رِدْأَهُ في الدَّرْبِ
ثمَّ استشارَ ذا النُّهى والحِجْرِ
من صَحْبه ومِن رجالِ الثَّغْرِ
فكُلُّهم أَشارَ أَنْ لا يُدْرِبا
ولا يجوزَ الجبلَ المُؤشَّبا
لأَنّه في عسكرٍ قدِ انخرَمْ
بِنَدْبِ كلِّ العُرفاءِ والحشَمْ
وشَنَّعوا أَنَّ وَراءَ الفَجِّ
خمسينَ ألفاً من رجالِ العِلْجِ
فقالَ لا بُدَّ من الدُّخولِ
وما إلى حاشاهُ من سبيلِ
وأن أُديخَ أرضَ بَنْبلونَهْ
وساحةَ المدينةِ الملْعُونَهْ
وكانَ رأياً لم يكُنْ من صاحبِ
ساعدَهُ عليهِ غير الحاجبِ
فاسْتَنصرَ اللَّهَ وعَبَّى ودَخَلْ
فكان فتحاً لم يكنْ لهُ مَثَلْ
وعاذَ بالرَّغْبةِ والدُّعاءِ
واستنزلَ النَّصرَ مِنَ السّماءِ
فقدَّم القُوَّادَ بالحُشودِ
وأَتْبعَ الحدودَ بالحُدودِ
فانهزمَ العِلجُ وكانتْ مَلْحَمهْ
جاوزَ فيها الساقةُ المُقدَّمهْ
فَقُتِّلوا مَقْتلَةَ الفَناءِ
فارتوتِ البِيضُ منَ الدِّماءِ
ثمَّ أمالَ نحوَ بَنْبلونَه
واقتحمَ العسكرُ في المدينَهْ
حتى إذا جَاسُوا خلالَ دورِها
وأَسرع الخرابُ في مَعْمورها
بلتَ على ما فاتَها النّواظِرُ
إذْ جَعلتْ تَدُقُّها الحوافِرُ
لِفَقْدِ من قتَّلَ مِن رِجالِها
وذُّلِّ من أَيْتَمَ من أطفالها
فكم بها وحولها من أغلفِ
تَهمي عليه الدمعَ عينُ الأَسْقفِ
وكم بها حَقَّرَ من كنائسِ
بدَّلتِ الآذانَ بالنّواقِسِ
يَبكي لها النَّاقُوسُ والصَّليبُ
كلاهما فرضٌ لهُ النَّحيبُ
وانصرفَ الإمامُ بالنَّجاحِ
والنصرِ والتّأييدِ والفَلاحِ
ثمَّ ثَنى الراياتِ في طريقهِ
إلى بني ذي النونِ من توفيقهِ
فأصبحُوا من بَسطهم في قَبْضِ
قد ألصقت خدودُهم بالأرضِ
حتى بَدَوْا إليه بالبرهانِ
من أكبرِ الآباءِ والوِلْدانِ
فالحمدُ للَّهِ على تأييده
حمداً كثيراً وعلى تسديدهِ
ثمَّ غَزا بيُمنهِ أشُونَا
وقد أشادُوا حولها حُصونا
وحَفَّها بالخيلِ والرّجالِ
وقاتَلوهُم أبلغَ القِتالِ
حتى إذا ما عاينُوا الهلاكا
تَبادروا بالطَّوعِ حينذاكا
وأَسلمُوا حِصْنَهُمُ المَنيعا
وسَمحوا بِخَرجِهم خُضوعا
وقبلَهم في هذه الغَزاةِ
قد هُدِّمتْ مَعاقلُ العُصاةِ
وأحكم الإمامُ في تدبيرهِ
على بني هابلَ في مَسيرهِ
إذ حُبسوا مراقباً عليهم
حتى أَتَوا بكلِّ ما لديهمُ
من البَنين والعِيالِ والحشمْ
وكُلِّ من لاذَ بهمْ من الخَدَمْ
فَهبَطُوا من أَجمَعِ البُلدانِ
وأُسكنُوا مدينةَ السّلطانِ
فكانَ في آخرِ هذا العامِ
بعد خُضوعِ الكُفرِ للإِسلامِ
مَشاهدٌ من أَعظمِ المَشاهِدِ
عَلى يَدَي عبد الحميدِ القائدِ
لمّا غَزا إلى بني ذي النُّونِ
فكانَ فتحا ًلم يَكُن بالدُّونِ
إذ جَاوزوا في الظُّلْمِ والطُّغيانِ
بقَتْلهم لعامِلِ السُّلطانِ
وحاولُوا الدُّخولَ في الأَذيَّه
حَتى غَزاهُمْ أَنجدُ البريَّه
فعاقَهُم عَنْ كلَّ ما رَجَوْهُ
بنَقْضه كُلَّ الذي بَنَوْهُ
وضَبْطِهِ الحِصْنَ العَظيمَ الشّانِ
أَشتبينَ بالرَّجْل وبالفُرسانِ
ثمّ مَضى اللّيثُ إليهم زحفاً
يَختطِفُ الأَرواحَ منْهم خَطْفا
فَانهزموا هزيمةً لم تُرْفَدَا
وَأَسْلموا صِنْوَهُمُ مُحمّدا
وغَيرَهُ مِن أَوْجُهِ الفُرسانِ
مُغرَّب في مأتمِ الغِرْبانِ
مُقطَّعَ الأَوصالِ بالسَّنابِكِ
من بعدِ ما مُزّقٍ بالنَّيازِكِ
ثمّ لجُوا إلى طِلاب الأَمنِ
وبَذْلهم ودَائعاً من رَهْنِ
فَقُبضتْ رِهانُهُمْ وأُمِّنوا
وأَنْفَضوا رُؤوسَهُم وأَذْعُنوا
ثمّ مَضى القائدُ بالتأييدِ
والنَّصر في ذِي العَرْش والتَّسديدِ
حتى أتى حِصْنَ بني عِمارَهْ
والحرْبُ بالتَّدْبير والإدَارَهْ
فافتتحَ الحِصْنَ وخَلَّى صاحِبهْ
وأَمَّنَ النَّاسَ جميعاً جانِبَهْ
لم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوَّادُهُ
واعتَوَرت بِبُشترا أجنادُهُ
فكلُّهم أَبلَى وأَغنَى واكتَفى
وكُلُّهم شَفَى الصُّدورَ واشْتَفى
ثمّ تلاهُمْ بعدُ ليثُ الغيلِ
عبدُ الحميد من بني بسيلِ
هو الَّذِي قامَ مقامَ الضَّيغَمِ
وجاءَ في غَزاتِهِ بالصَّيلَمِ
برأسِ جالوتِ النِّفاقِ وَالحَسدْ
مَن جُمِّع الخِنزيرُ فيه والأَسدْ
فهاكَهُ مع صَحبهِ في عِدَّه
مُصلَّبين عند بابِ السُّدَّه
قَدِ امتطى مَطيّةً لا تَبرحُ
صائمةً قائمةً لا تَرْمَحُ
مطيَّةً إنْ يَعْرُها انْكسارُ
يُطِبُّها النَّجَّارُ لا البيطارُ
كأَنَّه من فَوقها أسْوَارُ
عيناهُ في كِلتيهما مِسمارُ
مباشِراً للشَّمسِ والرِّياحِ
على جودٍ غير ذي جِماحِ
يقولُ للخاطرِ بالطَّريقِ
قولَ مُحبٍّ ناصِحٍ شَفِيقِ
هذا مقامُ خادمِ الشّيطانِ
ومَن عَصى خليفَةَ الرحمنِ
فما رأينا واعظاً لا يَنْطِقُ
أصدقَ منه في الّذِي لا يَصدقُ
فقُلْ لمن غُرَّ بسُوءِ رائِهِ
يَمُتْ إذا شاءَ بمثلِ دائِهِ
كم مارقٍ مضَى وكمْ مُنافِقِ
قدِ ارتقى في مِثلِ ذاكَ الحالِقِ
وعادَ وهوَ في العَصا مُصلَّبُ
ورأَسُهُ في جِذْعهِ مُركَّبُ
فكيفَ لا يَعتبرُ المخالفُ
بحالِ من تَطلبهُ الخلائفُ
أما تَراهُ في هَوانٍ يرتَعُ
معتبراً لمن يرى ويسمعُ
فيها غَزا مُعتزماً بِبُشترا
فجالَ في ساحَتها ودمَّرا
ثمَّ غزا طَلْجيرةً إليها
وهي الشجَى من بين أَخدعَيْها
وامتدَّها بابنِ السَّليم راتبا
مشمِّراً عن ساقهِ مُحاربا
حتّى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِهِ
بعد بُلوغِ غايةٍ من جُهدِهِ
فدانَ لِلإمام قصداً خاضعاً
وأَسلَم الحِصنَ إليه طائعا
لم يَغْزُ فيها وانتحَى بِبُشترا
فَرمَّها بما رأى ودبّرا
واحتلَّها بالعزِّ والتَّمكِينِ
ومحْوِ آثارِ بني حَفْصونِ
وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ
وطَهَّرَ القبورَ من أجسادِهمْ
حتّى خَلا مَلْحودُ كلِّ قبرِ
مِن كلِّ مُرتَدٍّ عظيمِ الكُفْرِ
عصابةٌ مِن شيعةِ الشَّيطانِ
عدوَّةٌ ِللَّهِ والسّلطانِ
فَخُرِّمَتْ أجسادُها تخرُّما
وأصليتْ أرواحُهم جَهنَّما
ووجَّه الإمامُ في ذا العام
عبد الحميدِ وهو كالضِّرغامِ
إلى ابن داودَ الّذِي تَقلَّعا
في جَبلَيْ شَذُونَةٍ تمنَّعا
فحطَّه منها إلى البسيطِ
كطائرٍ آذنَ بالسُّقوطِ
ثمَّ أتى بِهِ إلى الإمامِ
إلى وفيِّ العَهدِ والذِّمامِ
وبعد سَبع عَشرةٍ وفيها
غزا بَطَلْيُوسَ وما يليها
فلم يزَلْ يَسومُها بالخسْفِ
ويَنْتحيها بسُيوفِ الحَتْفِ
حتى إذا ما ضَمَّ جانِبَيْها
مُحاصِراً ثم بنَى علَيْها
خلَّى ابنَ إِسحاقٍ عليها راتبا
مُثابراً في حَرْبهِ مُواظِبا
ومَرَّ يَسْتَقصي حُصونَ الغَرْبِ
ويَبتليها بوَبيلِ الحَرْبِ
حتّى قَضَى مِنهُنَّ كُلَّ حاجَهْ
وافتُتحَتْ أَكْشُونَبه وباجّه
وبعد فتْح الغَرْبِ واستِقصائهِ
وحَسْمِه الأدواءَ من أَعدائِهِ
لجَّت بَطلْيوسُ على نِفاقِها
وغَرَّها اللَّجاجُ من مُرَّاقِها
حتّى إذا شَافَهَتِ الحُتوفا
وشامَتِ الرِّماحَ و السُّيوفا
دعا ابنُ مَروان إلى السُّلطانِ
وجاءَه بالعَهْدِ والأمانِ
فصارَ في تَوسِعةِ الإمامِ
وساكناً في قُبَّةِ الإسلامِ
فيها غَزا بِعْزمِهِ طُلَيْطلَهْ
وامتنعوا بمَعْقلٍ لا مِثلَ لَهْ
حتى بَنى جرنكشه بجَنبها
حِصْناً منيعاً كافلاً بحَرْبها
وشدَّها بابن سَليمٍ قائدا
مُجالداً لأَهلها مُجاهدا
فجاسَها في طُولِ ذاكَ العامِ
بالخسْفِ والنَّسفِ وضَرْبِ الهامِ
ثمّ أتى رِدْفاً له دُرِّيُّ
في عسكرٍ قضاؤهُ مَقْضيُّ
فحاصروها عامَ تسعَ عشْرَهْ
بكلِّ مَحْبُوكِ القُوى ذي مرَّه
ثمّ أَتاهم بعدُ بالرِّجالِ
فقاتلوهم أَبلغَ القِتالِ
حتّى إذا ما سَلفت شُهورُ
من عامِ عشْرينَ لها ثُبورُ
ألقَتْ يدَيها للإمامِ طائعَهْ
واستَسلَمَت قَسراً إليه باخِعَه
فَأَذعَنَتْ وقَبلَها لم تُذْعنِ
ولم تَقُد منْ نَفْسها وتُمكنِ
ولم تَدِنْ لربِّها بِدِينِ
سبعاً وسَبعين منَ السِّنينِ
ومُبتدى عشرينَ مات الحاجبْ
مُوسى الذي كانَ الشهابَ الثاقبْ
وبَرزَ الإمامُ بالتأييدِ
في عُدَّةٍ منهُ وفي عَديدِ
صَمْداً إلى المدينةِ اللعينَه
أتعسَها الرّحمنُ من مَدينَه
مدينةُ الشِّقاق والنِّفاقِ
وموئِلِ الفُسَّاق والمُرَّاقِ
حتّى إذا ما كانَ مِنها بالأمم
وقد ذَكا حَرُّ الهَجير واحتدَمُ
أتاهُ واليها وأَشياخُ البَلدْ
مُسْتَسلمين للإمام المُعتمدْ
فَوافَقُوا الرَّحبَ من الإمامِ
وأُنزلوا في البِرِّ والإكرامِ
ووجَّه الإمامُ في الظَّهيرَه
خَيلاً لكي تدخلَ في الجَزِيرَه
جَريدةٌ قائِدُها دريُّ
يَلمعُ في مُتونِها الماذِيُّ
جريدةٌ في وَعْرِها وسَهلها
وذاكَ حينَ غفلةٍ من أَهلها
ولم يكُن للقومِ من دفاعِ
بخَيلِ درّيٍّ ولا امتناعِ
وقوَّضَ الإمام عند ذلكا
وقلبُه صَبٌّ بما هُنالكا
حتى إذا ما حَلَّ في المدينَه
وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ
أقْمَعها بالخيل والرّجالِ
من غيرِ ما حربٍ ولا قِتالِ
وكان من أوَّل شيءٍ نظرا
فيه وما رَوى له ودبّرا
تَهدُّمٌ لِبابِها والسُّورِ
وكانَ ذاك أحسنَ التّدبيرِ
حتّى إذا صيَّرها بَراحا
وعاينوا حريمَها مُباحا
أقرَّ بالتَّشييدِ والتَّأسيسِ
في الجبَلِ النَّامي إلى عَمروسِ
حتّى استوى فيا بناءٌ مُحكمُ
فحَلَّه عاملُه والحشمُ
فعِندَ ذاكَ أَسلَمَت واستسلمت
مدينةُ الدِّماء بعدما عَنَتْ
فيها مَضى عبدُ الحميد مُلتئمْ
في أهبةٍ وعُدَّةٍ من الحَشَمْ
حتّى أتى الحصنَ الّذي تقلَّعا
يحيى بن ذي النُّون به وامتنعا
فحطَّه من هَضَباتِ ولبِ
من غيرِ تعْنيتٍ وغيرِ حَرْبِ
إلَّا بتَرْغيبٍ له في الطاعَهْ
وفي الدخولِ مَدْخلَ الجماعَهْ
حتّى أتى بهِ الإمامَ راغبا
في الصَّفح عن ذُنوبهِ وتائبا
فصفحَ الإمامُ عن جنايتِهْ
وقَبِلَ المبذولَ من إنابتِهْ
وردَّه إلى الحُصونِ ثانياً
مُسجّلاً له علَيها والِيا
ثمَّ غزا الإمامُ ذو المَجدَينِ
في مُبتدا عشرينَ واثنتينِ
في فَيلقٍ مُجمهَرٍ لُهامِ
مُدَكدِكِ الرّؤوسِ والأكامِ
حافُ الرُّبى لزَحْفِه تَجيشُ
تَجيشُ في حافاتهِ الجيوشُ
كأَنَّهم جِنٌّ على سَعالي
وكُلُّهم أمضَى منَ الرِّئبالِ
فاقتحموا مُلوندةً ورومَهْ
ومن حَواليها حصونُ حيمه
حتَّى أتاهُ المَارقُ التّجيبي
مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ
فخصَّه الإمامُ بالتّرحيبِ
والصَّفحِ والغُفرانِ للذُّنوبِ
ثمّ حَباهُ وكَساهُ ووَصَلْ
بشاحجٍ وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ
كلاهُما من مَرْكبِ الخَلائفِ
في حِلْيةٍ تُعْجِزُ وصفَ الواصفِ
وقال كُن منَّا وأوطنْ قُرْطبه
نُدنيكَ فيها من أجلِّ مَرْتبه
تكنْ وزيراً أَعظمَ الناسِ خَطَرْ
وقائداً تَجبي لنا هذا الثَّغَرْ
فقال أنّي ناقِهٌ من عِلَّتي
وقد تَرى تغيُّري وصُفْرتي
فإن رأيتَ سيّدي إمْهالي
حتّى أرمَّ من صَلاحِ حالي
ثمَّ أُوافيكَ على استِعجالِ
بالأهلِ والأَولادِ والعِيالِ
وأَوثَقَ الإمامَ بالعهودِ
وجَعَلَ اللَّهَ منَ الشُّهودِ
فَقبِلَ الإمامُ من أَيمانِهِ
وردَّه عفواً إلى مكانِهِ
ثم أَتتهُ ربَّةُ البَشاقصِ
تُدْلي إِليه بالودادِ الخالصِ
وأَنّها مُرْسلةٌ من عنده
وجَدّها متّصلٌ بجَدِّهِ
واكتفلتْ بكُلِّ بَنْبلوني
وأَطلقت أَسرى بني ذي النُّونِ
فأَوعدَ الإِمامُ في تَأمينها
ونَكَّبَ العسكرَ عن حُصونها
ثمّ مَضَى بالعزِّ والتَّمكينِ
وناصراً لأهلِ هذا الدِّينِ
في جُملة الرّاياتِ والعساكرِ
وفي رِجال الصَّبرِ والبَصائرِ
إِلى عِدَى اللّهِ منَ الجلالِقِ
وعابدِي المَخلوقِ دونَ الخالقِ
فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعا
وهَتكوا الرُّبوعَ والرِّباعا
وخَرَّبوا الحُصونَ والمَدائِنا
وأَقفروا من أهلها المَساكِنا
فليسَ في الدِّيارِ من ديّارِ
ولا بها من نافخٍ للنَّارِ
فغادروا عُمْرانَها خرابا
وبَدَّلوا رُبوعها يَبابا
وبالقِلاعِ أَحْرقوا الحُصونا
وأَسْخَنوا من أَهلها العيونا
ثمّ ثنى الإمامُ من عِنانِهِ
وقد شَفى الشَّجيَّ من أشجانِهِ
وأمَّنَ القفارَ من أنجاسها
وطَهَّرَ البلادَ من أرْجاسِها