العدو والعدوى

التفعيلة : حديث

ضرب وباء البشر

فقال علماؤهم نحتاج سنة لنجد له لقاحاً

قلت فإن كان الوباء أشد فتكاً وانتشاراً لا سمح الله

فلا يحتاج أكثر من سنة ليستأصل الناس كلهم

أفلا نقرع السن ونلطم الخد على آلاف السنين

التي ضيعناها في غير تعلم الطب؟

ألا يكون تاريخنا كلُّه

منذ السومريين وقدماء المصريين إلى يوم الناس هذا

تضييعاً للوقت وجريمة كثيرة الأسماء؟

إن هذه الجائحة

لم تعترف بالدول والحدود

والأعلام والأعراق

تلك الخطوط البلهاء على الورق الأبله

التي لا تمت للطبيعة بصلة

والتي أضاعت الأجيال أعمارها عليها بلا طائل

فماذا جنينا من ورائها؟

ما الذي جناه جيراننا الشماليون

من حرب السنوات المئة

أو حرب السنوات الثلاثين

أو حرب السنوات السبع مثلاً

ما استفاد من مات في سبيل إدوارد الثالث

ضد فيليب السابع

أو من مات في حروب البروتستانت والكاثوليك مثلاً؟

وعندنا

ما استفاد من مات في حروب الخوارج والأمويين

أو السنة والشيعة

إذ تهدد جائحة البشر جميعاً؟

من أي بذرة نمت شجرة التاريخ غير المثمرة تلك؟

أنا من أشد الناس نفوراً من السلطة

ولكن الناس لم يخترعوها عبثاً

وقد أسرف في شرح ضرورتها

علماء الهند والصين والروم والعرب

والعجم ممن نظروا في أصل اختراع البشرية

لهذه الأفعى المتعددة الرؤوس

والمسماة بالدولة

فعند المسلمين أقر جميع علماء الفرق والمذاهب

بأن لا بد للناس من إمام

وإلا جهل بعضهم على بعض

إلا أبو بكر عبد الرحمن بن الأصمّ

من علماء البصرة في القرن التاسع الميلادي

إذ قال ألا داعي لإمام من الناس

لكنه اشترط أن يسود الأمن والعدل فيهم

فلا يقع من أحدهم جرم إلا ردعوه كائناً من كان

وعند جيراننا الشماليين

نظَّر توماس هوبز

وهو ابن الحرب الأهلية الإنكليزية

في القرن السابع عشر

لتعاقد الناس فيما بينهم

على سلطان يحميهم من شر اقتتالهم

وقال إن ظلم ذلك السلطان لهم

أخف ضرراً من حرب الكل ضد الكل

وبطش الناس بالناس كما في الحروب الأهلية

ثم نظَّر كارل ماركس ومن تبعه

بعد هوبز بقرنين

لكون الدولة وسيلة قمع الثري للفقير في كل زمان

وقال بأن الدولة تتلاشى

إذا تلاشى الصراع بين الطبقات

أما قبل ذلك فلا

أما اليوم فإن مستهتراً واحداً

أو قدرياً متطرفاً في بلادك أو في أقاصي الأرض

يأبى إلا أن يولم لأقربائه في أوج الوباء

غير مجبر ولا مضطر

معرضاً نفسه وغيره للموت لا لشيء

إلا لاستهتاره

لمقنعك بأن مجرماً واحداً متبرعاً بالإجرام

يكفي ليحتاج شعب كامل إلى حكومة

لذلك تصدع الشعوب بالطاعة

على الرغم من علمها بأن الحكومات ذاتها

سوف تجرم لا محالة

تقبل الشعوب بظلم الحكومات

لأن الحكومات تحتكر الإجرام

فلا تسمح به لسواها

وظلم الواحد أهون من ظلم الجميع للجميع

كما كان عماد الدين زنكي بنُ قسيم الدولة السلجوقي

سلطانُ الشام في القرن الثاني عشر يقول:

ما يتفق أن يكون إلا ظالم واحد، يعني نفسه

نعم أفهم ذلك

لكن حتى هذا

لا يبرئ ساحة السلاطين عندي

فالإفلات من الدائرة ليس بهذه السهولة

صحيح أن الحكام يحتكرون الإجرام في رعاياهم

فيكون هذا أهون على الرعايا

من عدوان بعضهم على بعض

لكن الحكام لا يحتكرون الإجرام في العالم كله

فيتنافسون فيه

أي أن الدول تتنافس على الثروة والسطوة

ويكون الحكم في النهاية لصاحب السلاح الأفتك

لا لصاحب الحجة الأقوى

ويبطش بعضهم ببعض

فتنشب الحروب

فينكتب التاريخ

فننتج الموت بدلاً من أن نقاومه

ونضيع آلاف السنين في ذلك

حتى نفاجأ ذات شتاء بمخلوق صغير تافه

لم يبلغ أن يكون خلية حية بعد

يهدد البشرية كلها بالانقراض

فيذهب كل شيء سدى

من أسود بابل وأهرام مصر إلى الأقمار الصناعية

وكأن شيئاً لم يكن!

فالدولة إذن

محرك التواريخ الشديد الضجيج

ليست نقيض المجرم، بل هي مآله

هي نتيجته وثماره

فالمجرم الأول

هو البذرة التي نمت منها شجرة النار والدخان

هذه التي نسميها الدولة

والتي تناسخت فأصحبت غابات من نار ودخان

اسمها التاريخ

فالتاريخ، كالعدوى أصله مجرم واحد

ولا عجب في أن الرواية الدينية تبدأ التاريخ الأرضي

بجريمة ارتكبها الشيطان

ولولا المجرمون ممن يستجلبون الموت

على الناس استجلاباً

لصوصاً كانوا أو جبابرة

لكان كل بني آدم أمة واحدة

داؤها الموت، ودواؤها سعيها للبقاء أبداً

سعيها للخلود، نالته أو لم تنله، في الدنيا أو الآخرة

ولكان كل صراع دون هذا

صراعاً على وهم وهدراً للأعمار

ولهذا سماها العرب الدنيا، من الدنو

يتقاتلون عليها ويجلبون الموت على أنفسهم

وينسون أن لا صراع لهم إلا مع الموت نفسه

فحين تأتي هذه الجوائح

فلعلها تذكرنا بمهمتنا الأولى

أن نحيا

وأن نحيا جيداً

وأن نحيا بقدر من الجمال

ولعلها تذكرنا

بأن أصل الشر واحد

في القوي وفي الضعيف

فالذي يخاطر بحياة الناس غير مضطر ولا مجبر

لأنه مل البقاء في بيته

أو ليزيد ثروته أو لأي ترف يطلبه

لو أصبح حاكماً غداً لهبط على الناس بيوتهم

ليبقى في منصبه

هو الشرير ذاته في الحالتين

مرة أعزل ومرة مسلحاً

مرة مراهقاً أوائل البلوغ

ومرة وقد بلغ

إن أشرارنا أصل الداء

فإن وجدت أحداً من هؤلاء

في هيئة النشال أو الجنرال

فتوق منه توقيك من الوباء

وتوقي المرأة من الحية في سفر التكوين

لو كانت تعلم أصلها وغايتها

فهؤلاء هم العدو والعدوى

يجلبون الموت علينا وعلى أنفسهم

وعلى الناس جميعاً منذ كانت البشرية

وقد نجونا منهم من قبل

وسننجو منهم هذه المرة أيضاً


نوع المنشور:

شارك على :

المنشور السابق

يا مصر هانت

المنشور التالي

النساء

اقرأ أيضاً

أكثري أو فأقلي

أَكثِري أَو فَأَقِلّي قَد مَلَلناكِ فَمَلّي ما إِلى حُبِّكِ عَودٌ ما دَعا اللَهُ مُصَلّي قَد وَهَبناكِ لَعَمري وَتَصَدَّقنا…